إلغاء السرّية المصرفية... نحن لسنا أوروبا؟

الفكرة التي تسيطر على قوى السلطة هي الإفادة من «مزايا» الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي لإغراء السياح عموماً، والمغتربين خصوصاً، لزيارة لبنان بأرخص ما يمكن، علماً أنّ منظومة المال في لبنان جهّزت نفسها للتحصيل بالدولار الطازج، لا بالليرة. وفي أي حال، يدرك المغتربون أنّ السلطة في لبنان، عبر تاريخه، لم تنظر إليهم يوماً إلّا من زاوية نفعية. فهي ليست مغرمة بهم، بل بدولاراتهم.

 

في حساب السلطة التي تساوم العرب والأجانب للحصول على بضعة ملايين من الدولارات، أنّ موسم الاصطياف سيتكفل بجمع قرابة 3 مليارات دولار. وهذا المبلغ يستحق تنظيم الحملات الإعلانية غير المسبوقة لتشجيع الزائرين.

 

ضمن منهج الترقيع المتبع، هذا المبلغ يمكن أن يغطّي المرحلة حتى نهاية تشرين الأول، أي نهاية العهد، من دون حاجة ماسّة إلى مدّ الأيدي للعرب والأجانب، خصوصاً أنّ هؤلاء لهم شروطهم القاسية التي يمكن اختصارها بالإصلاح علناً، لكنها في الواقع شروط سياسية. وأساساً، في أفضل الأحوال، هؤلاء ليسوا مستعدين لتزويد لبنان سوى ببضع عشرات الملايين من الدولارات، وللقطاعات الإنسانية حصراً، ويتمّ تسليمها عبر هيئات غير حكومية.

 

إذاً، المليارات التي سيوفرها المغتربون وبعض السياح خلال هذا الصيف هي بالضبط ما تحتاج إليه قوى السلطة للاستمرار وتجنّب انفجار اجتماعي يربكها، في مرحلة الوقت الضائع، خصوصاً أنّ الورقة الوحيدة التي تلعبها، أي استنزاف احتياط المصرف المركزي، قاربت استنفاد صلاحيتها، وبدأ الحديث همساً عن بدائل حساسة أو خطرة، كالتصرّف بما أمكن من احتياطي الذهب أو موارد الدولة وممتلكاتها.

 

لقد نجح فريق السلطة في إمرار المراحل الصعبة منذ 17 تشرين الأول 2019، ونسف كل محاولات إسقاطه تحت وطأة الضغط الاقتصادي والاجتماعي. وهو اليوم يستعد ليكون الأقوى في المرحلة الجديدة، مراهناً على أنّ التسويات السياسية الخارجية ستأتي ولو تأخّرت، وستكرّس حضوره. ومع التسويات السياسية سيأتي الانفراج مالياً واقتصادياً.

 

قراءة بعض قوى السلطة هي أنّ الأزمة المالية لم تكن لتنفجر في العام 2019 لو لم يكن هذا الانفجار مقصوداً ضمن الحصار الدولي على لبنان، لدفعه إلى خيارات سياسية معينة، وللضغط على «حزب الله» وحلفائه.

 

وهذه النظرة لها ما يثبتها. فصحيح أنّ واقع الهدر والفساد المتمادي طوال عقود أوقع الدولة في خسائر باهظة، ما أدّى إلى نمو الدين العام حتى قارب 100 مليار دولار. لكن الصحيح أيضاً هو أنّ واقع الفساد والهدر كان ينمو على مرأى من القوى الإقليمية والدولية، بل كان بعضها يغذيه أحياناً بطريقة غير مباشرة، ومعه العديد من المؤسسات المانحة التي لم تكن تسأل كثيراً عن الشفافية، كما هي لا تسأل عنها اليوم في تعاطيها مع الكثير من الحكومات والدول.

 

فلماذا بقيت الدول والمؤسسات المانحة تزود لبنان بالمليارات بلا حساب ولا رقابة، على مدى عقود، ثم استفاقت فجأة على الفساد وقرّرت محاصرة السلطة وقطع كل دعم عنها، لو لم يكن ذلك جزءاً من الحصار السياسي لفريق السلطة في لبنان و»الكباش» مع إيران، خصوصاً بعد تولّي دونالد ترامب زمام البيت الأبيض؟

 

واستطراداً، يعتقد أصحاب هذا الرأي أنّ أي انفراج سياسي قد يتمّ التوصل إليه في لبنان، ويحظى برعاية دولية وإقليمية، سيقود تلقائياً إلى انفراج للأزمة المالية والنقدية، وأنّ القوى الخارجية التي تضع الشروط القاسية على لبنان لمنحه المساعدات المطلوبة سترفع حظرها وتتراجع عن تشدّدها عندما ينطلق الحل السياسي المتوافق عليه.

 

ولذلك، في نظر هذا الفريق، إنّ أجدى ما يقوم به اليوم هو أن «يصمد» بالإمكانات المتوافرة، ريثما تأتي الحلول من الخارج، فيتمّ تعويض الخسائر وسدّ الفجوات وينطلق مسار الحل. وبناءً على هذه النظرة، هناك إجماع داخل السلطة على استنفاد كل الوسائل والأساليب التي تسمح بكسب الوقت ريثما يأتي الحل السياسي. وثمة اعتقاد لدى البعض بوجود فرصة لولادة هذا الحل في تشرين المقبل، ومعه يمكن أن يجري فك الحصار عن لبنان ويبدأ مسار الإفراج عن المساعدات.

 

هل هذا الاحتمال في محله؟ وهل القوى المعنية بالملف اللبناني تتجّه إلى تسويات كبرى، أو على الأقل إلى تسوية موضعية على قياس لبنان، إذا تعذّرت التسويات الكبرى؟

 

من سوء الأقدار اندلاع الحرب في أوكرانيا مطلع العام الجاري، وفي اللحظة التي كان يتقدّم فيها الملف الأكثر حساسية في الشرق الأوسط ولبنان، أي الملف النووي الإيراني. فلو تأخّرت حرب أوكرانيا لاستفادت المنطقة ولبنان من مناخات التسوية في فيينا.

 

اليوم، ملفات الطاقة والصراع مع إسرائيل والحدود والهيمنة الإقليمية وصراع المحاور الكبرى، كلها تتحرّك على وقع الحرب في أوكرانيا. وإذ يلهث الغربيون لجمع أوراقهم في الشرق الأوسط لمواجهة الدب الروسي الذي لا ينفك يخرق أسوار أوروبا والأطلسي بلا تردّد، سارع فلاديمير بوتين إلى قمة في طهران تضمّ الأتراك أيضاً. وهذا ما سيمنح الإيرانيين هامشاً واسعاً للمناورة بين الأميركي والروسي، وسيلمس العرب والإسرائيليون هذا الارتياح الإيراني، من اليمن والعراق وسوريا إلى لبنان.

 

المؤشر الأبرز إلى المرحلة الآتية هو أوكرانيا. فالاستنزاف هناك يرجح فرضية الأزمات المفتوحة عبر الشرق الأوسط والعالم، فيما التهدئة ترجح فرضية التسويات. وحتى اليوم، لا توحي الحرب هناك إلّا بالتصعيد. وهذه إشارة سلبية إلى مسار الأزمات عموماً، ومنها أزمة لبنان.

 

ستكون هناك دولارات في لبنان لتغطية المأزق حتى تشرين، لكن مسار الاهتراء الإداري والمؤسساتي لا يبدو قابلاً للضبط، ومعه سيبلغ الاهتراء الاجتماعي حدوداً يصعب تحديد عواقبها، فيما البلد غارق في أزمة شغور كامل في السلطة التنفيذية، بين حكومة لا تتجاوز صلاحياتها تصريف الأعمال ورئيس للجمهورية يرفض إخلاء الموقع لها.

 

في هذه الحال، لن يكون هناك سوى رهان ضعيف على الفرنسيين المنشغلين بالتحسب لكوابيس الحرب في أوروبا، والسعوديين المنشغلين بمآزق التموضع بين معسكرات الشرق والغرب، لعلّ ذلك يمنع دخول لبنان في الأسوأ. لكن الوساطات في هذه الأجواء ليست مضمونة النتائج. وقد يكون على اللبنانيين أن يتحسبوا لشهور عصيبة بعد تشرين... إلّا إذا حدثت معجزة!

 

رغم انّ السير في مشروع القانون هذا يبدو ظاهرياً يسير بشكل سلس في اللجان، الّا انّ مصادر مطلعة تؤكّد لـ»الجمهورية»، انّ معركة رفع السرّية المصرفية لا بدّ قادمة، مستبعدة ان يمرّ مشروع القانون بهذه السهولة في المجلس النيابي، لأنّه فعلياً يعني انكشاف بعض مكامن الفساد الذي قاده سياسيون نافذون او أحزاب سياسية تشابكت مصالحها مع جهات مالية نافذة. ورأت انّ إقرار هذا القانون يعني فعلياً منع كبار المتموّلين من التهرّب الضريبي، بما يفتح المجال امام السير بمطلب الضرائب التصاعديّة الذي طالما حال النافذون دون تحقيقه، لأنّه يطالهم في الدرجة الاولى. كما يحول هذا القانون متى أُقرّ، دون هروب المتهمين بالإثراء غير المشروع، وهم كثر، من المحاسبة، ويسهّل ملاحقة أصحاب الجرائم المالية.

 

من جهتها، تسعى لجنة المال إلى توفير أحد مطالب الحكومة للسير قدماً بالاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي، وما تعديل قانون السرّية المصرفية سوى واحد من سلّة شروط طلبها الصندوق إلى جانب «الكابيتال كونترول» وإقرار الموازنة وإعادة هيكلة المصارف، على اعتبار انّ هذه المطالب أساسية لاستعادة التوازن المالي في لبنان. اما إقرار مشروع قانون رفع السرّية المصرفيه فيهدف في الدرجة الاولى إلى معالجة تبييض الاموال وتمويل الإرهاب والتهرّب الضريبي، ويتيح الوصول إلى أسماء أصحاب الحسابات المعنية، على ان يلعب لاحقاً دوراً مسهّلاً في عملية إعادة هيكلة المصارف.

 

إلى ذلك، يبدو انّ في مقابل كل الإيجابيات التي يحملها إقرار هذا المشروع، هناك مساوئ قد لا يتمكّن لبنان من تخطّيها او التعايش معها. وفي السياق، يقول رئيس منظمة «جوستيسيا» الحقوقية المحامي بول مرقص لـ«الجمهورية»، انّ السرية المصرفية ليست شراً في حدّ ذاته بل لها منافع كثيرة إذا لم تقف حاجزاً أمام مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب ولا سيما التهرّب الضريبي، خصوصاً في بلاد مثل لبنان، حيث لا ميزة تفاضلية فيه سوى الحرية الاقتصادية والنظام الليبرالي الذي يحمي خصوصية المودعين، خصوصاً العرب والخليجيين منهم، الذين ينأى البعض منهم عن حكوماته وأجهزة مخابراته ويودع أمواله في لبنان في منأى عن التتبع والملاحقة.

 

وانتقد مرقص ما يُقال عن انّ الغاية من طرح مشروع القانون هو مكافحة التهرّب الضريبي، متناسين وجود القانون 44 /2015 الذي يهدف إلى مكافحته ويرفع السرّية المصرفية حكماً بمجرد الاشتباه جدّياً بهذه الجريمة ضمن الجرائم المعددة في القانون المذكور، فضلاً عن انّ النص المقترح يحمل تناقضات كثيرة واحكاماً ملتبسة، من شأنها ان تكشف حسابات اللبنانيين أمام بعض الفاسدين في الإدارة والأمن والقضاء، فيجاز لهم الاطلاع على الحسابات من دون معايير او سقوف زمنية ودونما ضمانات، للتظلّم وللدفاع عن المودعين عندما يُساء استعمال كشف السرية المصرفية في حقهم. لذلك يرى مرقص انّ هذا الاقتراح بحاجة لإعادة النظر كلياً، لا بل رفضه وإفهام صندوق النقد الدولي اننا لسنا في دولة حقوق وقانون، حيث التشريعات ضامنة للخصوصية ولحقوق الدفاع وللتعسف في استعمال القانون، وانّ النظر إلى تجارب الدول الاوروبية هو في غير موقعه، إذ انّ للبنان خصوصية من جهة، ولكن ايضاً حكمية غير رشيدة وغير صالحة من جهة اخرى، تحول دون القضاء على السرّية المصرفية، كما يُراد من وراء هذا المشروع.

 

التعديلات المقترحة

يذكر انّ بعض التعديلات المقترحة على قانون السريّة المصرفية شملت الآتي:

- حظر الحسابات المرقّمة، وهو المعمول به راهناً، لأنّها تخفي هويّة صاحب الحساب الفعلي وتستعيض عنه برقم معيّن بدل الإشارة إلى إسم صاحبه. وبحسب التعديلات المطروحة حاليًّا، يفترض أن يتمّ تحويل هذه الحسابات إلى حسابات عاديّة باسم أصحابها خلال مهلة 6 أشهر.

 

- السماح للسلطات القضائيّة أو هيئة التحقيق الخاصّة أو أي سلطة أخرى ذات صلاحيّة بإلقاء الحجز على الأموال المودعة لدى المصارف. مع العلم أنّ قانون سريّة المصارف يحظّر هذا النوع من الحجوزات إلّا بموافقة صاحب الحساب، فيما يحصر قانون مكافحة تبييض الأموال هذه الصلاحيّة بهيئة التحقيق الخاصّة.

 

- إعطاء صلاحيّة رفع السرية المصرفية وطلب الداتا المصرفيّة لكل من: السلطات القضائيّة التي تنظر في جرائم الفساد والجرائم الماليّة، والهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، ولجنة الرقابة على المصارف، والمؤسسة الوطنيّة لضمان الودائع، ومصرف لبنان، والسلطات الضريبيّة المختصّة، بالإضافة إلى هيئة التحقيق الخاصّة.

 

- تمكين السلطات التي تملك صلاحيّة الحصول على المعلومات المصرفيّة من تبادل هذه المعلومات في ما بينها.

 

- إعطاء لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان صلاحيّة مراقبة تطبيق القانون، لجهة امتثال المصارف لطلبات المعلومات المصرفيّة الواردة إليها، وإحالة المصارف غير الممتثلة إلى الهيئة المصرفيّة العليا، على أن يكون لدى الهيئة مهلة أسبوعين لاتخاذ الإجراءات القانونيّة في حق المصارف المخالفة.