اختنقوا في داخل غرفة صغيرة هرباً من النيران... قصص ضحايا بشارة الخوري والأسئلة المفتوحة

كانت النيران أقوى من أحلامهم ومخاوفهم وحبّهم للحياة في تلك الغرفة، التي لا تتعدّى المتر المربّع، حيث اختبؤوا هرباً من النّار التي كانت تلتهم كلّ شيء، وحيث لم تُفلح محاولاتهم للنجاة. كان الموت محتماً، والاختناق قدرهم الذي كتب نهاية قصصهم ومستقبلهم.
 
في بشارة الخوري، دخل كلّ موظف إلى مطعم Pizza Secret حاملاً أمله في تأمين لقمة عيشه والصمود في بلد يتخبّط بأزماته المتواصلة. لكلٍّ منهم حلمه، قصّته، وعائلة انتظرته، لكن أحداً منهم لم يعد بالأمس إلى منزله، فقد ماتوا جميعهم ظلماً.
 
تسرّبُ غازٍ - وفق الظاهر - أدّى إلى كارثة، كان يمكن أن تكون أعظم لولا العناية الإلهية التي منعت انفجار قارورة الغاز.  صور الضحايا تحفر الألم عميقاً في النفوس، آية مرمر، عماد شقير، وليد دنكور، حسين هرموش، هادي شهاب، علي جاد...جميعهم كانوا يبتسمون في صورهم، واليوم نبكيهم قهراً وحزناً.
 
الكل يترقّب ما ستكشفه التحقيقات والرواية الدقيقة حول المأساة التي شهدناها. ثمّة أسئلة مفتوحة للمعنيين، وفرضيّات مرجّحة تنتظر حسمها في التحقيق. السلامة العامة ضروريّة في بلد يتقاذف فيه المعنيّون المسؤوليّة، الإهمال، وغياب الصيانة الدائمة أشبه بقنبلة موقوتة قد تنفجر في أيّ لحظة، وهذا ما حصل بالأمس مخلّفاً وراءه 9 ضحايا من الشباب و 4 جرحى، واحد منهم من فوج الإطفاء، قضوا حتفهم نتيجة...؟
 
وعلمت "النهار" أنّ المراقبين الصحيّين كانوا قد أعطوا إنذاراً لصاحب المطعم بسبب عدم تأمين شهادات صحيّة للموظفين، كما قام المخفر بإبلاغ البلدية بشأن تركيب "لافتة".

أوقف المحامي العام الاستئنافي في بيروت القاضي زاهر حمادة صاحب المعطم، ووضع حراسة على أحد العمّال المصابين، بعدما نُقل إلى أحد المستشفيات، فيما أكّد وزير الداخلية بسام المولوي أن "الأدلة الجنائية ستجري تحقيقها في الحادثة، والقضاء حتماً سيُظهر الجهة المسؤولة".

يؤكد رئيس شعبة العلاقات العامة في فوج إطفاء بيروت علي نجم لـ"النهار" أن "الغاز الذي تسرّب وعبق في المكان بشكل كبير، ثم تعرّض لشعلة نار أدّى إلى اندلاع الحريق في المكان"، وينفي "صحة المعلومة التي تشير إلى انفجار قارورة الغاز. فلو حصل ذلك لكنّا شهدنا انهياراً لجزء من المبنى نتيجة عصف الانفجار وقوته".

عمل فوج الإطفاء على إخراج 4 قوارير غاز، ثلاث منها فارغة، وواحدة ممتلئة، تمّ تنفيسها في الخارج، بالإضافة إلى قارورة أخرى ممتلئة كانت موجودة في الخارج.
 
من بشارة الخوري إلى الضنية، التي تعيش حزناً كبيراً بعد وفاة أحد أبنائها في كارثة المطعم. يُسلّم رياض دنكور شقيق الضحية وليد دنكور الذي توفّي بالحريق لمشيئة الله. يقول لـ"النهار" إننا "مؤمنون، وهو قضاء الله وقدره. هذا كان نصيب شقيقي، وندعو الله أن يُصبّر زوجته الحامل في شهرها السابع، وطفلها الصغير المريض الذي يبلغ من العمر سنة ونصف السنة، وعائلتنا على هذه الخسارة الكبيرة".
 
كان يوم السبت هو اليوم الأخير الذي شاهد فيه رياض شقيقه وليد في منزله في الضنية. "وبالأمس، تلقيتُ اتصالاً من شبّان في الضنية يعملون مع شقيقي في المطعم، أخبروني بأن شقيقي تعرّض لحادث، وهو في المستشفى. وعندما وصلنا، عرفنا الحقيقة المؤلمة. لقد توفّي اختناقاً نتيجة تسرّب الغاز. الرحمة لروحه. لا يمكن أن نقول أكثر من ذلك".
 
ونعود إلى السؤال الأهمّ: ما الذي أدّى إلى تسرّب الغاز؟ يشرح نجم بأن "هناك 3 فرضيات محتملة: هل القارورة "منزوعة" أم غير صالحة؟ هل الإمدادات غير جيّدة؟ هل حصل تسرّب للغاز عند تغيير القارورة من دون انتباه أحد؟

هذه الأسئلة المفتوحة تطرح مسألة أكبر تتمثّل بالسلامة العامة والإجراءات المتّخذة لضمان عدم تكرار هذه الحادثة.
 
كذلك حسّاسات ساعات الغاز عن تلك الخاصّة بالحريق، فالأخيرة يتمّ تركيبها في السقف لأن الدخان والحرارة يصعدان باتّجاه الأعلى، في حين تُركّب حسّاسات الغاز على الأرض، لأن الغاز أثقل من الهواء، وينزل ناحية الأرض، ثمّ يصعد إلى فوق. وعليه، يشدّد نجم على "وجود حسّاسات للغاز تُركّب على النظام، وعند انتشار رائحة الغاز تقوم بقطع الإمدادات، وبالتالي حماية المكان من خطر اندلاع حريق أو حدوث انفجار نتيجة التسرّب".

كان يصعب على علي مرمر، شقيق الضحية آية مرمر، استيعاب هذا الخبر الصاعق، وكتب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كلمة: "بعرفش شو قول يا أختي والله كسرتيلي ضهري، نيال الجنة فيكي يا روح قلبي. الحمد لله على كل شي يا أحلا ملاك بالجنة. بحبك يا ضلعي وروحي. أنت يا صغيرتي وأميرتي. خلصت الدني من بعدك يا أختي يا عيوني".
 
ينتظر رئيس نقابة العاملين والموزّعين في قطاع الغاز ومستلزماته فريد زينون نتائج التحقيقات، لكنّه يرى أن "الصيانة الدائمة والمستمرّة يجب أن تكون متوفّرة في كلّ المطاعم والفنادق والمستشفيات التي تستخدم الغاز". ويدعو إلى "التأكّد من سلامة الساعة و"النبريش" و"المواسير"، لأن أيّ تسرّب للغاز قد يؤدّي إلى انفجار مثل ما حصل بالأمس في بشارة الخوري".
 
ويشير إلى أهمية "وجود إطفائيّات تُركّب في السقف فوق قوارير الغاز في الأماكن التي يكون فيها استخدام للغاز، لأنّ هذه الإطفائيّات تعمل تلقائياً عند تخطّي الحرارة الـ60 درجة في المكان".

يستذكر نجم جيداً المحَاضر التي سُطّرت خلال أزمة انقطاع البنزين والغاز نتيجة تخزين بعض المستودعات، إلا أن هذه الحملة توقّفت. ويلخّص نجم الواقع "هيدا البلد هيك، وشهدنا على تجارة بطريق غير شرعيّة وغير آمنة".
 
وفي خضمّ هذه الفوضى والغموض، أكّدت قيادة فوج الإطفاء أنه، بناءً على أمر محافظ مدينة بيروت القاضي مروان عبود، تمّ تكليف ضابطين خبيرين للبدء بالكشف على موقع الحريق وجمع الأدلة لتحديد سبب الحادث. وبعد الانتهاء من عملهما، سيقومان بتنظيم تقرير وتسليمه إلى المرجع المختصّ".

خسر عاملان في توزيع الغاز حياتهما في الحادث الأليم نتيجة وجودهما في المطعم لتسليم قوارير غاز جديدة.

يشرح زينون أن "انفجار قارورة الغاز لا يحصل إلا في حال وصول الحرارة إلى 1200 درجة (في حال كانت القارورة مقفلة وممتلئة)، وما حصل في المطعم محيّر وغامض. فعند وصول العاملَين لتسليم الغاز، قام أحدهما بتنزيل قارورتين جديدتين، وما إن أدخل أوّل قارورة حتى انفجر المكان. ما حصل كان غريباً، وفي انتظار الرواية الرسمية. أتمنى على الناس توخّي الحذر. وعند شمّ رائحة الغاز يجب إطفاء الأجهزة الكهربائية وفتح النوافذ، لأنه عند "تقليع" الثلاجة أو وجود "Resistance" أو حتى حمل هاتف محمول، فإن ذبذبات تصدر، ومن شأنها أن تُشعل النّار".
 
وحول سلامة قوارير الغاز الموجودة في لبنان، يؤكّد زينون أن "العمل على استبدال القوارير القديمة ما زال جارياً منذ صدور القرار حفاظاً على السلامة العامة. وبالأرقام، تمّ استبدال نحو 5 ملايين ونصف المليون قارورة غاز، ونعمل اليوم على استبدال نحو مليون ونصف المليون قارورة قديمة بأخرى جديدة في الأسواق، خصوصاً أننا شهدنا إدخال نحو مليون قارورة غاز قديمة مع النازحين السوريين. وكلّ القوارير القديمة تُتلف في إحدى الشركات، لأنها لم تعد صالحة للاستعمال".
 
وعملاً بمبدأ السلامة العامة وصحّة المواطنين، يتمنّى النقيب على وزير الداخلية إصدار تعميمٍ، يطلب إلى فوج الإطفاء والدفاع المدني الكشف على جميع المطاعم والفنادق والمستشفيات، التي تستخدم الغاز، للتأكد من سلامتها بهدف حماية المواطنين والأملاك العامة وتفادياً لأي كارثة أخرى.
 
فهل تكون هذه الكارثة خاتمة الإهمال في السلامة العامة، ودرساً لكلّ أصحاب الفنادق والمطاعم لاتّخاذ العِبر وتفادي تكرار هذه المأساة؟

الأيّام وحدها كفيلة في أن تكشف النية الحقيقة في الإصلاح والعمل بضمير حيّ حفاظاً على أرواح أناسٍ همّهم الوحيد تأمين لقمة عيشهم في لبنان.