السّجناء اللّبنانيون في قبرص يناشدون السّلطات لإعادتهم إلى لبنان..."ركبوا البحر" اضطرارًا

بالرغم من الحراك اللّبنانيّ- القبرصيّ المشترك، لإيجادٍ أرضيةٍ مشتركة للحوار بين الطرفين، بغية تمتين العلاقة الدبلوماسيّة الّتي طرأ عليها تشنج يُعزى في جوهره لخلافاتٍ تتجاوز ملف اللجوء السوريّ والهجرة غير الشرعيّة، لتطال في الصميم الأبعاد السّياسيّة وما يلحقها من تباين في الرؤى الجيوستراتيجيّة بينهما، لا تزال تبعات العلاقة الملتبسة بين لبنان وقبرص، تفرز نوعًا من الاضطراب في الداخل اللّبنانيّ، خصوصًا بعد ظهور قضيّة احتجاز السّلطات القبرصيّة لحوالى 200 لبنانيّ من المهاجرين غير الشرعيين حتّى اللحظة، في خطوةٍ عدّها المراقبون مخالفة للاتفاقيّة الثنائيّة الموقعة بين قبرص ولبنان عام 2004، والقاضيّة بإعادة كل مهاجر يصل إلى قبرص من لبنان، وإن لم تقم بذلك فإنها ستكون في معرض المساءلة القانونيّة والحقوقيّة للإخفاء القسريّ للأفراد.

احتجاز للبنانيين في السّجون القبرصيّة
وفي التفاصيل، فقد علمت "المدن" أن عددًا من المهاجرين غير الشرعيين، من التابعية اللّبنانيّة، تحتجزهم السّلطات القبرصيّة، منذ مدّة،  في سجونها. وتصل أعدادهم إلى نحو 200 شخص (بينهم قاصرين)، ذلك بعد اعتقالهم من قبل خفر السّواحل القبرصيّ أو الشرطة المحليّة بإشراف إدارة التحقيقات الجنائيّة القبرصيّة CID. وهذه الاعتقالات جاءت بالتزامن مع اعتقال أعداد أكبر للاجئين سوريين اتجهوا من السّواحل اللّبنانيّة والسّوريّة إلى الجزيرة القبرصية. أما غالبية المعتقلين فيتحدرون من الأرياف والأطراف اللّبنانيّة، وتحديدًا عكار. وأسباب الاعتقال المُعلنة، تتمثّل في احتجاز هؤلاء لحين انتهاء التحقيق معهم، وصدور أحكام بحقّهم، على خلفية تُهم تتعلق بتجارة البشر، على اعتبار أن هؤلاء ضمن طواقم الإبحار، بالرغم من تأكيداتهم أنهم مهاجرون وحسب.

وفي حديثه مع "المدن" يُشير مختار بلدة ببنين العبدة -قضاء عكار، ورئيس روابط المخاتير في عكار، زاهر كسار، الى أن ببنين وحدها، تُطالب بإعادة 30 شابًا  (2 من القاصرين) من أبنائها، هؤلاء الذين "ركبوا البحر" للوصول إلى أوروبا وتحديدًا إيطاليا، بحثًا عن ظروف معيشيّة وحياة لائقة ومدخول يؤمن لهم ولذويهم في لبنان بديهيات العيش، وهم مهاجرون عاديون، قائلًا: "بعض من هؤلاء الشباب اعتقل منذ سنة ونصف السنة، والبعض الآخر اعتقلته السّلطات القبرصيّة منذ أسابيع قليلة". أما مطلب أهالي البلدة فيتجلى، حسب كسار، بإعادة هؤلاء لبلدهم وبيوتهم، والإفراج عنهم في أسرع وقتٍ ممكن. وأضاف: "تواصلنا مع جهاتٍ عدّة. وكان تواصلنا الدائم مع النائب وليد البعريني، الذي نقل مطالبنا إلى الحكومة. وقد وعدتنا الأخيرة أن الحلّ بات قريبًا، وستتواصل مع الجهات المعنيّة في قبرص. ونحن لحدّ اللحظة ننتظر هذا القرار ونتائج المباحثات، فيما كان تعويلنا على جلسة مجلس النواب".

وأكدّ أن هؤلاء الشباب "ركبوا البحر" اضطرارًا بعدما ضاقت بهم سُبل العيش في لبنان، واحتاج ذويهم لمساندة، هم الذين يعيشون على المساعدات والمبادرات الإنسانيّة. هذا وألمح لكون الأهالي سيضطرون للتحرك الميدانيّ في حال لم تُحقق مطالبهم في القريب العاجل. ولتحقيق مطلب الإعادة، قام الأهالي بإرسال لوائح بأسماء المحتجزين إلى وزراة الداخليّة ومكتب رئيس مجلس الوزراء، متأملين أن تصدر هذه السّلطات عفوًا عامًا على أبنائهم، أو على الأقلّ تحرّك المديريّة العامة للأمن العام، لتخليص المعاملات اللازمة -كإصدار جوازات سفر لهؤلاء- واستعادتهم.

وفيما قد يُحاجج البعض، أن مطلب الأهالي ليس "أولويّة" في الوقت الحالي، خصوصًا أن أبناءهم اختاروا سُبلًا ملتويّة لمغادرة لبنان، مع العلم المُسبق أنهم قد يتعرضون لمثل هذه النزاعات مع قوانين الدول الّتي يقصدونها، يُشدّد كسار على أن هؤلاء لم يختاروا هذه الطريق إلا ما بعدما انسدت في وجههم كل الطرق. فالسفارات "الغربيّة" لا تقبل دائمًا طلبات الهجرة واللجوء، وأن الوضع الاقتصاديّ في لبنان حتّم مثل هذه الظواهر.

سياسة الهجرة القبرصيّة
لكن فعليًّا يبقى التساؤل، لماذا تحتجز السّلطات القبرصيّة هؤلاء حتّى اللحظة؟ علمًا أنها ملتزمة بإعادتهم فورًا إلى لبنان (وقد تمّ بالفعل الحكم على عددٍ منهم بالسّجن لثلاث سنوات)؟ وما هو موقف لبنان الرسميّ من هذا الاحتجاز؟

وقد حاولت "المدن" مرارًا الاتصال بوزارة الخارجيّة اللّبنانيّة والقبرصيّة، لطرح هذه التساؤلات، من دون أن تلقى ردًّا على تساؤلاتها.

وهذا التحفظ يطرح إشكاليّة قديمة متجدّدة، وهي الّتي حذرت منظمات حقوقيّة عدّة من احتماليتها سابقًا، وتتجلى في كون السّلطات القبرصيّة باتت تعتمد نمطًا منهجيًّا لتخويف وترهيب اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين من الهجرة نحو أراضيها، أكان تطبيقًا للرؤى الأوروبيّة المستجدّة في هذا الإطار، أو لإثبات أنها لن تتهاون مُجدّدًا مع التهديدات اللّبنانيّة المبثوثة عبر المراجع الرسميّة والحزبيّة (وآخرها أمين عام حزب الله حسن نصرالله) الّتي تتوعد أوروبا بفتح الشواطئ اللّبنانيّة أمام "سيل" المهاجرين واللاجئين، كجزء من الابتزاز اللّبنانيّ للاتحاد الأوروبيّ، بورقته الرابحة دومًا.

أما إجراءات قبرص، الضاربة بعرض الحائط العاقبة القانونيّة، فتُعيدنا إلى نقطة مفصليّة تتجاوز واقع تفاقم ظاهرة الهجرة غير الشرعيّة، وتصدير لبنان للمهاجرين من مواطنيه ومن اللاجئين السّورييّن (دولة عبور نحو أوروبا)، وترتبط بواقعٍ أمنيّ متدهور وواقعٍ قضائيّ وسياسيّ وديبلوماسيّ سمتّه التخاذل عن أداء أدواره الأساسيّة، وإيجاد حلّول حقيقيّة لكل من ملفي اللجوء السّوريّ والهجرة غير الشرعيّة وغيرها من القضايا الطارئة. حتى يكاد يبدو  خيار الغرق في البحر أكثر "منطقيّةً" من البقاء.