الطلاب اللبنانيون والتعلم في الخارج: "لا نريد سوى الرحيل"

تختصر عبارة "الرحيل بأي ثمن" واقع الكثير من الطلاب اللبنانيين الذين لا يبحثون سوى عن الهروب من المآزق التي أتعبتهم طوال السنوات الماضية. استسلم هؤلاء للواقع، وباتوا متيقنين أن الأمل يبدأ، بتأمين تأشيرة وتذكرة سفر إلى أي بقعة من بقاع العالم. لا يهم البلد، ولا الاختصاص، ولا المستوى التعليمي للجامعة أو المؤسسة التربوية، المهم "نريد الرحيل "، هي العبارة الأكثر ترداداً على الالسن.

 ظاهرة قديمة ولكن...

يحصد اللبنانيون اليوم أثمان الأزمة الاقتصادية. لا نقصد بذلك ارتفاع سعر الدولار وتضخم الأسعار والانهيار المؤسساتي الشامل… بل النتائج التي لم نلحظها، أو التي نتهرب من مواجهتها. "فقدنا شعور الانتماء لمجتمعنا ومن حولنا"، كما يقول طالب لبناني لـ"المدن"، يدرس في ليتوانيا منذ سنتين تقريباً.

ليس التعلّم في الخارج ظاهرة جديدة على اللبنانيين، فهي شكّلت حالة إيجابية لأولئك الذين درسوا في أعرق الجامعات الأميركية والأوروبية. ما يحصل اليوم أن فئة كبيرة من الطلاب ترغب بمغادرة البلد من دون الاكتراث للمستوى الأكاديمي للجامعات، ولا لقيمة الشهادة التي سيحصلون عليها. المقلق هو وقوع العديد من الطلاب في الفخ لأسباب عديدة، أبرزها التسرع في التسجيل بغياب أي ضمانات تربوية ومادية.

تجارب مخيّبة للآمال

تتحدث فاطمة. ص. (25 سنة) عن تجربتها التي تصفها بـ"الكارثية"، بعدما قررت دراسة الماجستير في بيلاروسيا قبل سنتين. تقول لـ"المدن": "علمت بالمنحة من خلال أحد أعضاء البلدية، واعتبرتها الفرصة الأفضل للخروج من لبنان بعدما أنهيت مرحلة البكالوريوس في إدارة الأعمال من دون إيجاد أي فرصة عمل". وصل القبول لفاطمة في غضون أسبوعين، وكانت التفاصيل "مطمئنة"، أبرزها برنامج الدراسة بالإنجليزية وتأمين السكن والإعفاء من الرسوم الدراسية.

تقول فاطمة"أتذكر تفاصيل اليوم الأول في الجامعة التي لا تشبه جامعات أوروبا إطلاقاً، لقد كانت أشبه بمجمّع سكني لا بحرم جامعي. والكارثة الأكبر عند دخول الأستاذ المحاضر الذي تحدّث باللغة البيلاروسية لا بالإنجليزية". وبعد مراجعة الإدارة، اكتشفت  أن عدداً من المواد ستدرّس باللغة الأم للبلاد، وأنها مجبرة على دراسة اللغة على نفقتها الخاصة خلال مدة قصيرة. عادت إلى لبنان بعد نحو شهر، فالإندماج كان مستحيلاً حسب تعبيرها، وهي اليوم تكمل دراستها في إحدى الجامعات الخاصة في الجنوب.

لا تختلف تجربة عبد ف. (21 سنة) كثيراً عن فاطمة، بعدما وجد بالدراسة في الخارج فرصة لترك لبنان وتأسيس حياة جديدة. "لم أبحث عن جامعات في لبنان بعد إنهاء المرحلة الثانوية، فقد سبق وحسمت قراري بالسفر إلى تركيا ودراسة السينما هناك"، يقول عبد لـ"المدن". امتدت تجربته لأربعة أشهر فقط، إذ لم يعد قادراً على تغطية تكاليف دراسته وسكنه ليعود إلى لبنان. يلفت إلى أن تكلفة الجامعات الخاصة كانت باهظة، ومتطلبات الجامعات الحكومية كانت صعبة. والمشكلة الأكبر تكمن في كونه من طلّاب دفعة 2020 الذين أخذوا "إفادة" من وزارة التربية، وهو ما ترفضه الجامعات الرسمية التركية.

في الخارج أيضا "جامعات دكاكين"

غالباً ما يكون قبول الجامعات الخارجية على برامج الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه) أسهل من البكالوريوس، وهو ما يسعى إليه الطلاب خصوصاً في حال غياب فرص العمل. يغيب عن بعض هؤلاء أن ما يُعرف بـ"الجامعات الدكاكين" في لبنان، موجود في الخارج،  فالمستوى الأكاديمي للجامعات لا يرتبط حكماً باسم البلد.

يلفت الباحث ومدير أحد المشاريع في مركز الدراسات اللبنانية، محمد حمود، إلى أن التكاليف الباهظة في الجامعات اللبنانية العريقة هي السبب الأبرز لهجرة الطلاب، ما يجعل التعليم في لبنان حكراً على الأغنياء. خلال حديثه مع "المدن"، يشير إلى أن "الهدف الأول والأخير من التعلم في الخارج هو الحصول على تأشيرة والخروج من لبنان، والمقلق اليوم أن الفئة الأكبر من الشباب يرحلون من دون عودة".

غياب الأرقام

في السابق، اقتصرت وجهة اللبنانيين على الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وجامعات روسيا العريقة. أما اليوم، فالعديد من الدول التي تغيب عنها السمعة المهنية هي التي تستقطب الفئة الأكبر من الطلاب، خصوصاً وأن تكلفة المعيشة فيها معقولة مقارنةً بالدول الكبرى، كما الحصول على تأشيرة منها أسهل. نتيجة غياب المكننة، لا أرقام دقيقة لدى مديرية التعليم العالي في وزارة التربية عن وجهات التعليم الأكثر استقطاباً للطلاب اللبنانيين.

يشدّد حمود على أن الطلاب الذين يدرسون في "الجامعات الدكاكين" في الخارج يفضلونها على مثيلاتها في لبنان. لا يكتسب هؤلاء أي خبرات علمية تخوّلهم إيجاد فرص عمل مناسبة.

بالتالي على الطالب المقارنة بين المستويات الأكاديمية في الخارج والتدقيق في التصنيف العالمي والمحلي للجامعة والاستعانة بخبرات الأكاديميين في لبنان قبل التفكير بالهجرة.

إحدى الطالبات في اليونان، ذكرت لـ"المدن" أنها على علم بسوء مستوى جامعتها التي لن تسهّل عليها إيجاد أي فرصة عمل، لكنها سعيدة رغم ذلك، والسبب أنها غادرت لبنان.

لا تعكس تجربتها سوى البؤس الذي يعيشه طلاب لبنان وشبابه.

مع الاسف، لا يمكن اليوم الرهان على أي جهود رسمية لمساعدة الطلاب، أو توجيههم في حال رغبتهم بالهجرة. والأصعب من ذلك، لا يبدو ممكناً إقناع الطلاب بعدم الهجرة، ولو إلى "الجامعات الدكاكين" في الخارج، فالبلد يتفنن يومياً باختراع الأسباب التي تحصر أحلامهم بتذكرة السفر.. والتأشيرة.