العود السوري أيضاً ينافس اللبناني

رغم كلّ الصعاب التي تواجه لبنان، بقيت صناعاته الفنيّة عصيّة على الأزمات. لا بل ازدادت رواجاً وازدهاراً. ولا عجب في ذلك، فالفنّ هو نتاج كلّ المراحل. له في الصِّعاب، كما له في الأيام العِذاب. يتلوّن بلون الحالة، يتقمَّص الأحداث والمراحل، يلبس المشكلة ويُبرزها في قالبٍ جماليّ، فتتحول الأعمال الفنية من مجرّد إبداع، إلى تأريخٍ لما يحدث.

«بالإجمال السوق الفني لم يتأثر بالأزمة. لا بل زاد الطلب على القطع الفنيّة الباهظة الثمن. يعود سبب ذلك الى اعتبار اقتناء الأعمال الفنيّة وجهة آمنة للاستثمار، خصوصاً تلك الموقَّعة من الفنانين الأكثر شهرة، وبالتالي يمكنها حماية رؤوس الأموال من الأخطار المحدقة، كانهيار العملة، أو غيرها». وفقاً لما قاله النحات أناشار بصبوص لـ»نداء الوطن»، لكن بعض أصحاب الكاليريات يخالفونه الرأي خصوصاً أن العروض لا تتناسب مع قيمة المعروض.

ويشدد بصبوص على أن «نوعية المواد الأولية، أكانت المستوردة، أو المحلية لم تتأثر، بل حافظت على الجودة المطلوبة. وبالنسبة للنحاتين، المواد المستخدمة هي ذاتها المواد الأولية المستخدمة للبناء، كالرخام وغيره، أو الأخرى المستخدمة في الصناعات، كالمعادن والأخشاب، لذلك لم يعانوا من أي نقص فيها أو من صعوبة في استيرادها».

يتوافق كلام بصبوص مع ما قاله رئيس منتدى الفنّ التشكيلي علي ناصر. فبرأيه، إن الأزمة الحالية مكّنت الأعمال الفنية اللبنانية من أن تفرض نفسها كمنافسة حقيقية للأعمال المستوردة، من حيث الجودة ومن حيث الأسعار.

وفي ما خصّ الجانب الصناعي في اللوحات، يقول، «بعد أربع سنوات ونيّف من عمر الأزمة، يمكننا التأكيد أن صناعة اللوحات ازدهرت كمّاً ونوعاً، ففي حين أخذت هذه الأزمة المرافق اللبنانية معها الى حدود الهاوية، اتخذت رحلة تطوّر الرسم اتجاهاً عكسياً، حيث صعدت بالفن اللبناني الى مراقي التطور، وأصبحت المواد الأولية الأعلى جودة متوافرة بأسعار مقبولة، فانتقل سوق اللوحات من الركود الى الانتعاش».

إذاً، يمكننا القول إن الأعمال الفنيّة الفاخرة (Luxury)، توسعت في السوق اللبناني على حساب الأقل فخامة وفرادة. وفي هذا الخصوص، يقول ياسر أبوشقرا لـ»نداء الوطن» وهو صانع آلات موسيقية شرقيّة منذ العام 1980: «لا ندري لماذا يصبح السوق أكثر نشاطاً إبان الأزمات، بالرغم من أن العديد منّا لم يتنازل عن معايير الجودة، مما يرفع أسعار المصنوعات بنسب عالية مقارنة مع تلك المستوردة. لكن العازفين المحترفين لا يقتنون إلا آلات معروفة المصدر».

يتابع أبوشقرا: «المشكلة الأساسية التي تواجه صانعي الآلات الموسيقية، هي ارتباطها بالتعليم وتنمية قدرات العزف. فشراء الآلة مرتبط بمعرفة خاصة، وقلّة هم الناس الذين يقتنونها بغرض العرض فقط. لذلك نجد أن تكلفتها مشروطة ومزدوجة، تتمثّل بالتعليم والشراء. فعندما تضعف القدرة الشرائية، يختفي التعليم، وبالتالي يتدنى معدل بيع الآلات المتوسطة الثمن، فيضعف السوق كمّاً، لكنه ينتعش نوعاً، لأسباب ما زلنا نجهلها».

أما عن الخشب الذي يصنع طرباً، فيقول: «لا بديل محليّاً عن كلّ ما يدخل في صناعة الآلات الوَترية، مما يرفع أسعارها حكماً. ويعتبر خشب الجوز الأميركي هو الأغلى بينها».

وفي محاولة لإبقاء هذه الحرفة في الطليعة، يعمد بعض المصنعين الى تخفيض هامش الأرباح للوصول الى جميع الفئات الاجتماعية. يقول عماد بلانة لـ»نداء الوطن» وهو أيضاً من مصنعي الآلات الموسيقية: «تخلينا فعلاً عن بعض أرباحنا لنتمكن من منافسة الآلات المستوردة، فالعود اللبناني، على سبيل المثال، يواجه تحدياً صعباً أمام العود السوري، الذي يصل سعره الى 80 دولاراً، أي أدنى بكثير من تكلفة المواد الأولية للعود اللبناني. لذلك كان لا بدّ لنا من اعتماد فئتين في التصنيع، الأولى بجودة عالية للمحترفين، والثانية بأسعار تمكننا من المنافسة». وما يصح على العود اللبناني ينطبق على آلة القانون، حيث يستورد المهتمون بالموسيقى القانون السوري، وله في دمشق حرفيوه، وله في لبنان صنّاعه المبدعون والعازف صادق ملاعب واحد منهم.

أسواق الوفرة

يبدو تصوّر الحرفيين اللبنانيين عن السوق مختلفاً، إذ يقول أحمد كيوان، منسّق مجموعة «حِرَف»، لـ»نداء الوطن»، إن هناك عدة عوامل أثّرت سلباً على عمل الحرفيين. «انعدام السياحة، انخفاض القدرة الشرائية لدى شريحة واسعة من المواطنين، اجتياح السلع الصينية للسوق. كلها عوامل أدت الى تراجع في بيع المصنوعات الحرفية المحليّة. ففي حين يمكن للحرفي اللبناني أن يصدّر منتجاته، تجدنا نستورد شبيهاتها بأسعار تنافس المصنوعات المحليّة، مثل الصابون والزجاج والخشب المنحوت والأواني، مما يضيف عبءً جديداً على الميزان التجاري الوطني. ولا شك أن ارتفاع كلفة المواد الأولية يحول دون قدرتنا على المنافسة».

وعلى الصعيد الرسمي، يرى كيوان، «أن انعدام الاهتمام بالقطاع، وإبعاده عن الأولويات جعلا الحرفيين يواجهون الأزمات بقدراتهم الفردية، دون أي حماية أو مساعدة». وفي حين تتولى وزارة الشؤون الاجتماعية إدارة القطاع الحرفي بموجب المرسوم رقم 5734 منذ العام 1994، فإن الحرفيين، وبحسب كيوان، «ظلّوا من دون حاضنة تؤمّن لهم مقومات حماية المستقبل، كتوفير تأمين صحي أو صندوق تعويضات. ولا شك أن إيجاد مقرّ مركزي ثابت للحرفيين يحتوي على مشاغل ومصانع، يساهم مساهمة فعالة في انتعاش الاقتصاد الوطني، هذا إذا نظمت الحكومة اللبنانية القطاع بالشكل الصحيح وخلقت للحرفيين أسواقاً للتصدير».

ويضف أن «لا بديل عن الدولة لحماية الصناعات الحرفية والفنيّة اللبنانية من غزو المقلدة، أو المصنوعة بطريقة copy paste التي تُغرِق الأسواق المحليّة. ففي حين يمضي الفنان أياماً وأحياناً شهوراً لإنهاء قطعة فنية لا مثيل لها، كَون لا يمكن إعادة صنعها مرّة أخرى بالشكل ذاته، تجد مئات، بل آلاف القطع المستوردة متشابهة وتباع بأسعار متدنية جداً.

وبالرغم من أن الصناعات الحرفية كانت تشكّل واجهة ثقافية واقتصادية للسياحة، وكانت تعتبر العمود الفقري لقطاع الصناعة، نجدها اليوم تئنّ تحت وطأة الأزمات، حاملة هموم أكثر من 8000 حرفي لبناني يعملون في قطاع يفتقد للتنظيم والدعم والحماية».

لعلَّ المشكلة تتمثّل باختفاء الطبقة الوسطى، التي كانت تشكّل الرافعة لهذه الصناعات. فيقول بصبوص: «رغم انتعاشها في لبنان، يمكننا التأكيد أن المصنوعات الفنية قد انتقلت من أن تكون متاحة لشريحة واسعة، الى الانحسار في الفئة الميسورة من الناس. فالكثير من الفنانين كانوا يعتمدون على الطبقة الوسطى، وقد أدى اختفاؤها الى انكماش في سوق البيع، مما جعلهم يستعيضون عن المصنوعات المتوسطة، بالمصنوعات الأغلى ثمناً والتي تتطلب وقتاً أطول. لكنّ ذلك لم يصبّ في مصلحة الفنانين الأقل شهرة، الذين ترتكز قائمة زبائنهم على متوسطي الدخل، فأولئك تأثروا بالأزمة أكثر من غيرهم».

لا حدود للفنّ

«الفنان من قشّة بيقدر يصنع فن»، يقول كيوان بثقة، ثم يتابع: «ترتكز بعض الأعمال الحرفيّة على إعادة تدوير مواد عديدة مثل الزجاج المحطّم، المعادن، وغيرها، وصناعة أشكال فنيّة مختلفة منها. كذلك الأمر بالنسبة للمنحوتات الخشبية، فغالبيتها يتم تصنيعها من الأخشاب اللبنانية، وفي أغلب الأحيان من الحطب المهمل. وهذا عامل إيجابي للحؤول دون استخدام المواد المستوردة، وبالتالي الاستفادة بأكبر قدر ممكن من العناصر المحلية – منخفضة الثمن. فعلى سبيل المثال، يعتبر خشب الزيتون الجبلي من أجمل أنواع الخشب على الإطلاق في فن النحت، حتى أن بعضهم يسميه ذهب الزيتون. وهناك خشب الأفوكا الذي يعتبر مثالياً لصناعة اللوحات المنحوتة، بسبب لونه الزهري المميز. حتى خشب السنديان، الذي يعتبر الأغلى بين الأخشاب الوطنية، يبقى سعره مقبولاً مقارنة ببعض الأخشاب المستوردة.

ولا بدّ لهذه الأعمال التي ترتكز على إعادة التدوير، من أن تأخذ طابعاً ثقافياً خاصاً يحدّد المرحلة التي تنتمي إليها».

فبالرغم من قسوة المرحلة، لكنها ستترك بصمة ثقافية خاصة. فبحسب بصبوص، تجتمع كلّ هذه العوامل، «الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية، وخصوصاً ما يجري في غزّة وفي الجنوب، لتتسلّل الى الأعمال الفنيّة من خلال أفكار صانعيها، بحيث ترسم في نفوس الفنانين طريقين متقاربين. يسلك الطريق الأول، من أثرت فيه المرحلة بشكل مباشر، فيجسّد مشاعره وهواجسه بأعماله، ويصوّر الواقع كما هو، إن كان نقداً أو تأييداً لفكرة معيّنة. فيما يأخذ الطريق الثاني آخرون، ممن جعلوا تلك الهواجس تتخمّر في ذواتهم لتخرج مجبولة بِلَمسةٍ وجدانية لا تفتح أبواب مكنوناتها إلا للمدقّقين. والأكيد أن أزمات هذه المرحلة لم تغِب عن أي رسالة أراد إيصالها الفنانون. ففي ظلّ وحشية هذا العالم الذي نعيش، من المستحيل ألا يتأثر الفنانون، وهم المعروفون برهافة أحاسيسهم».


تحوّل إلى اللبناني

بحسب علي ناصر: «يتربع لبنان اليوم على عرش فنيّ قلّ نظيره بين الدول». وهو، بحسب قوله، عصيّ على العواصف. لقد خيِّل للكثيرين أن لبنان سيجوع، لكنه صمد. تحدى الأزمات بمزيد من التقدم على المستوى الفني. وواجه محاولات الشرذمة بمزيد من المحبة والإلفة بين الفنانين. والفن يعني الحياة، ونهوضه يعني نهوض الأوطان. ثم نوّه بوزارة الثقافة، فبالرغم من الانكماش الاقتصادي الذي لا يسمح بأي دعم مالي، لكنها تؤمن الرعاية المعنوية والمؤازرة الدائمة للفن وللفنانين». ويلفت ناصر إلى أمر مدعاة فخر «بتنا نصنع التركيبة التأسيسية للوحات من مواد مستوردة من تركيا أو من إيطاليا. وهنا نقصد بالمواد الأولية، تلك التي تدخل في صناعة الألوان. حتى القماش بدأنا تصنيعه في لبنان، فاستغنينا بالتالي عن القماش الصيني. مما أثر إيجاباً على جودة المصنوعات والمساهمة في انتعاش سوق العمل اللبناني. وفي ما خصّ الأخشاب، لقد تحوّلنا الى الخشب اللبناني، الذي هو أكثر صلابة وأجود نوعاً. خصوصاً خشب السنديان. وكان لكلّ ذلك انعكاس واضح على الساحة الفنيّة، ففي حين بدأ المنتدى منذ عشر سنوات بخمسة أو ستة فنانين، تجاوز عددهم اليوم الخمسمئة فنان من كل المناطق اللبنانية. منهم من سافر الى بعض الدول، بحثاً عن أسواق أكثر انتعاشاً. لكن سرعان ما عادوا وأقرّوا بأن ظروف العمل في لبنان أفضل».عسى ألّا يثبت العكس!