تداعيات النزوح السوري تهدّد بالمزيد من الانهيار الاقتصادي والأمني.. مليارات الدول لن تكفي لسدّ الفجوة الاقتصادية التي عمّقها النازحون

تعرّض لبنان لموجات لجوء عدة في تاريخه، تختلف مسبباتها ومنطلقاتها لكنها تتطابق في نتائجها من حيث الكلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية على المجتمع والدولة، فيما تسبب بعضها بتصدع الكيان اللبناني وتشرذم مواطنيه وتناحرهم السياسي وأحياناً العسكري دعماً أو رفضاً، ليتحول التنازع سقوطاً أكثر للدولة والاقتصاد.

آخر وأقسى موجات اللجوء كانت مع دخول نحو مليون و170 ألف لاجئ سوري ما بين 2012 و2015، انتشروا في جميع المدن والقرى اللبنانية بشكل فوضوي وغير منظم، ثم ما لبث أن ارتفع العدد إلى نحو 2.2 مليون لاجئ، بدفع من الظروف الأمنية التي استجدت داخل سوريا من جهة، وبإغراءات "الكرم" الأممي بعد انهيار النقدين اللبناني والسوري من جهة أخرى.

ليس من إحصاء دقيق لعدد اللاجئين السوريين في لبنان، و"الجردة" التي تدّعي منظمات الأمم المتحدة صحتها غير دقيقة، فالكثير من السوريين اللاجئين غير مسجلين لدى مكاتب الأمم المتحدة، وغير راغبين بذلك، إما لعدم رغبتهم بالتعريف عن أنفسهم لأسباب شتى، أو لاستغنائهم عن مساعداتها بسبب مزاولتهم أعمالاً واستثمارات مربحة، وهم بذلك خارج الإحصاء العام، وغير معروف تأثيرهم على الاقتصاد.

ما بين عبارة "نازح" التي تتمسك بها الدولة اللبنانية في وصف السوريين الموجودين على أراضيها، وصفة "اللاجئ" التي وفق القانون الدولي تلزم الدولة المضيفة بتحمل المسؤولية الكاملة تجاه اللاجئين إليها، يعيش لبنان تداعيات وجود كتلة بشرية ضخمة تعادل أكثر من 40% من عدد سكانه، متغلغلة في مختلف المدن والأحياء والأزقة، وتنافس اللبنانيين في غالبية قطاعاتهم الاقتصادية والإنتاجية، ولا تخضع لقانون العمل أو لأي إجراءات ضريبية أخرى.

فمنذ نشوء لبنان والعمالة السورية ناشطة وفاعلة، لكن معظمها كان موسمياً خلال الحصاد والإنتاج الزراعي، بينما تحولت هذه العمالة اليوم إلى اقتصاد موازٍ لا قدرة للمعنيين على تحديد ضرره وسلبياته على الاقتصاد بسبب تفلته من جميع الأطر القانونية والمحاسبية، ولعدم دخوله النظام المالي والمصرفي كلياً منذ ما قبل الانهيار الأخير.

قد يكون من الحقيقي في كثير من الأوجه والأسباب المسندة تحميل الطبقة السياسية مسؤولية الانهيار المالي والنقدي، لكن من الواقعي والمنطقي النظر إلى كتلة اللجوء البشري السوري، بأنها أحد العوامل الرئيسية التي أودت باقتصاد لبنان الى السقوط، حيث جميع القواعد العلمية والاقتصادية تتفق على استحالة قدرة اقتصاد دولة عدد سكانها 4 ملايين نسمة مثل لبنان، على أن يتحمّل ضغط حاجات لاجئين تعادل حاجاتهم السنوية ما يحتاج إليه اقتصاد بلد اللجوء. ولن يفيد كرم الدول الكبرى والمتعاونة مع الأمم المتحدة ومنظماتها في سد الفجوة المالية والاقتصادية التي عمّقها  النزوح السوري، ولن تكفي الوعود بالمليارات مستقبلاً، أو مليار مقسط على 4 سنوات معروف أهدافه ومراميه التوطينية في إعادة بناء ما دمّرته عشوائية وفوضوية النازحين في الاقتصاد اللبناني.

كلفة باهظة تناهز 65 مليار دولار!

شكل انتشار ما يزيد عن مليوني لاجئ سوري على كامل مساحة لبنان عامل ضغط كبير على البنية التحتية المتعبة أصلاً، وتبدو بعض المناطق في عكار وطرابلس والمنية في الشمال، وبعلبك والهرمل وعرسال في البقاع إلى تخوم الضاحية الجنوبية وبعض مناطق بيروت وغيرها، بمثابة المناطق المنكوبة خدماتياً، وتعاني من نقص (إن لم نقل تدمير) بناها التحتية.

فإلى النقص الهائل في كافة خدمات الماء والكهرباء والصرف الصحي، وجمع النفايات، تنتشر مظاهر تجارة الأرصفة وبيع السلع المهربة والممنوعات، والأدوية غير المرخصة، وجميع ما يخطر على البال.

لا ينكر رئيس الهيئات الاقتصادية محمد شقير الكلفة الباهظة للوجود السوري على الاقتصاد، ولكن الخطر الاكبر برأيه هو الخطر الأمني الذي يشكله بعض السوريين على حياة اللبنانيين خصوصاً بعد ازدياد الجرائم التي يرتكبها هؤلاء ويذهب ضحيتها لبنانيون أبرياء.

حتى إن شقير تخوف من نشوب حرب أهلية بين النازحين السوريين واللبنانيين إن لم يتدارك المعنيون خطورة وجودهم عبر إعادتهم الى بلادهم خصوصاً مع وجود مناطق آمنة وواسعة في سوريا التي نتمنّى أن تعود الى سابق عهدها حيال الازدهار والنمو. يجب على المسؤولين في لبنان رفض قبول هبة المليار يورو التي ينوي الاتحاد الأوروبي تخصيصها للبنان، فلبنان ليس للبيع أو الإيجار لا بمليار ولا حتى 100 مليار يورو".. بيد أنه يستدرك بالقول "لن نرمي السهام أو الحكم على هذه الهبة قبل معرفة تفاصيلها ومناقشتها في مجلس النواب، علماً بأن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي نثق به قال إن الهبة مخصصة للشعب اللبناني ولا علاقة للسوريين بها".

وبالعودة الى الكلفة التي تكبدها الاقتصاد اللبناني من جراء الوجود السوري فيه، أكد شقير أن الكلفة منذ بدء زوح السوريين الى لبنان تجاوزت 50 مليار دولار في البنى التحتية والاقتصاد عموماً. وكما هو معروف فإن النسب الأكبر من التهريب يقوم بها سوريون، فيما المؤسسات غير الشرعية في غالبيتها للسوريين من دون أن يسدّدوا أي ضريبة أو رسوم للخزينة أو الضمان الاجتماعي".

وفيما يتعذر على السلطات اللبنانية إجراء إحصاء رسمي وواقعي لعدد النازحين السوريين الذين دخلوا البلاد منذ عام 2011 بشكل عشوائي عبر معابر شرعية وأخرى غير شرعية، وانتشروا في مخيمات وشقق مستأجرة في المناطق كافة، تشير بعض الأرقام غير الرسمية إلى أن عدد اللاجئين السوريين في لبنان يبلغ 1.8 مليون، منهم نحو 880 ألفاً مسجلون لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

أما رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي فيقول إن عددهم بات يناهز ثلث عدد اللبنانيين، مع ما يترتب على ذلك من أعباء وتحديات تضاعف من أزمة لبنان الاقتصادية والمالية وتهالك بناه التحتية. أما المدير العام للأمن العام بالوكالة اللواء إلياس البيسري، فقدّر عددهم بنحو مليونين و100 ألف، أي ما يشكل 43% من عدد المقيمين في لبنان، ولكن للباحث في شؤون الاقتصاد محمود جباعي وجهة نظر أخرى، إذ أكد أن نسبتهم تناهز 75% من نسبة السكان اللبنانيين.

وبغض النظر عن عدد النازحين السوريين والنسب التي يشكلونها من عدد اللبنانيين، فإن كلفة وجودهم على الاقتصاد اللبناني عموماً كبيرة جداً، إذ كشف جباعي أنه "في الفترة الممتدة بين عامي 2011 و2019 أي قبل بداية الازمة الاقتصادية وصلت كلفة النزوح الى ما يقارب 50 مليار دولار كحد أدنى، إذ إن نحو 30% من الموازنة العامة تُنفق على النازحين وذلك عبر استخدام المرافق العامة والبنى التحتية والافادة من شتى الخدمات التي تقدمها الدولة اللبنانية لمواطنيها كالطبابة والتعليم والكهرباء والخبز المدعوم وغيرها من الأمور الحياتية اليومية، أي ما يشكل بين 3.5 و4 مليارات دولار سنوياً من مجموع النفقات العامة، إضافة الى الكلفة غير المباشرة التي تقدّر بنحو ملياري دولار سنويا والمرتبطة بالقطاع السياحي ومنافسة اليد العاملة اللبنانية عدا عن المشاريع الصغيرة التي ينشئها السوريون وتشكل منافسة حقيقية للمشاريع اللبنانية".

أما بعد أزمة 2019، فلا يزال النزوح السوري يكبّد الاقتصاد اللبناني المزيد من الأموال، إذ بحسب جباعي فإنه على الرغم من تقلص حجم الموازنة "ما زالت نسبة 30% من مجمل الموازنة تنفق على النازحين السوريين بما يقدر بمليار دولار سنوياً خسائر مباشرة، أي نحو 5 أو 6 مليار دولار منذ بدء الأزمة حتى اليوم، ما يعني أن الخسائر المباشرة وغير المباشرة ناهزت 65 مليار دولار"، لافتاً الى أن الدولة اللبنانية "لم تحصل طوال الأعوام السابقة من المجتمع الدولي سوى على 12 مليار دولار مساعدات، بما يعني أن الكلفة التي تكبدتها خزينة الدولة تقدر بنحو 55 مليار دولار والرقم قابل للزيادة خصوصاً في ظل تزايد عدد النازحين الذي تخطى مليونين ومئة ألف نازح رسمياً.

وهذا الرقم يمكن أن يكون تخطى 3 ملايين نازح على أرض الواقع أي 75% من نسبة السكان اللبنانيين بما يهدد لبنان بفقدانه كيانه المالي والاقتصادي والاجتماعي والديموغرافي. أمام هذا الواقع، يعتبر جباعي أن هبة المليار يورو الموزعة على أربع سنوات والتي قد يقبلها لبنان من المجتمع الدولي لن تقدم شيئاً يُذكر، فقيمتها الشهرية لا تتعدّى 22 مليون يورو بينما الدولة تنفق فقط على رواتب القطاع العام 120 مليون دولار فيما موازنتها الشهرية تصل الى 256 مليون دولار أي إن الهبة لن تغطي 10% من نفقات لبنان.

وإذ يشدد جباعي على خطورة توسع النشاط الاقتصادي والمالي للنازحين السوريين في لبنان بما يزيد من خسائر اللبنانيين، يعتبر أن الحل للوجود السوري ليس بهبة مليار يورو بل بخطة شاملة يحدد فيها حاجات اقتصاد لبنان من اليد العاملة السورية ويجب ألا تتخطى نصف مليون عامل كما كانت الحال قبيل الأزمة السورية. وشدد على ضرورة فرض الرسوم والضرائب على العمال السوريين ورفع رسم تجديد الإقامة في وزارة العمل، كما يجب تفعيل الترحيل القسري في حال عدم حيازة العامل السوري أوراقاً ثبوتية وإفادة عمل لأن الديموغرافيا والسوق اللبنانية تتأثران كثيراً من تبعات النزوح، محذراً من أنه "بعد 5 سنوات قد تتعادل أرقام المواطنين في لبنان والنازحين السوريين بما يعني أن نصف الموازنة سيُنفق على النازحين".