خطر إدراج لبنان في اللائحة الرمادية وارد: رب ضارة نافعة!

أسوة بغالبية اللبنانيين، يعيش مصرف لبنان والقطاع المصرفي راهنا، حالة ترقب وانتظار لما ستؤول إليه الأوضاع على الحدود الجنوبية وفي الإقليم، ومدى انعكاس ذلك على الاستقرار الداخلي الهش، وحركة الأعمال والنمو الاقتصادي المفتقد.

بيد أن هما آخر لا يعيه كثر من اللبنانيين، ولا تريد دولتهم حتى الدنو من مسؤولياتها تجاه متطلباته، يثقل يوميات مصرف لبنان وحاكمه بالإنابة وسيم منصوري. هذا الهم الذي يتمثل في إمكان إدراج لبنان على اللائحة الرمادية، من مجموعة العمل المالي ("فاتف")، أعاد ترتيب الأولويات الملحة لديهما، ودفعهما إلى تكرار السعي، وإعادة محاولة إقناع المؤسسات المالية الدولية مجددا بصوابية ما أنجز في مصرف لبنان والقطاع المصرفي، منذ نحو سنة حتى اليوم، واضعا أمام الجميع التقارير التي تثبت جدوى ذلك على الاستقرارين المالي والنقدي.

وإذا كان الخوف من إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي، يفسر محاولات مصرف لبنان المتكررة لإبعاد الكأس المرة عن لبنان، وحماية ما تبقى عاملا من قطاعاته المالية والمصرفية، فإن المواجهة يخوضها منصوري ومعه فريق عمله في المصرف بمفردهم، فيما هي واجب حكومي وسياسي. ولكن المضحك المبكي أن الدولة تقف في الجانب المعرقل لمعركة الحاكم بالإنابة، فتحجب عنه غالبية التقارير والإحصاءات التي يحتاج إليها سندا في معركته لشراء المزيد من الوقت، وفترات السماح للبنان من "مجموعة العمل المالي" التي يتزايد اقتناعها يوما بعد يوم، بضرورة وضع لبنان على اللائحة الرمادية، تمهيدا لإسقاطه لاحقا، ما لم ينفذ الإصلاحات المطلوبة، إلى اللائحة السوداء. ووقتذاك ستصبح العزلة في حكم الواقع، والعقوبات الدولية والاقتصادية شبه كاملة، والآمال بالإنقاذ ستتحول عصية على التحقيق.

أمام لبنان حاليا ما يقل عن شهر، وتحديدا 15 أيلول المقبل، لتتضح الصورة لديه أكثر. إذ سيتحرك مصرف لبنان على خطين متوازيين. الأول، سيكون نحو بلجيكا حيث سيتوجه فريق عمل لبناني متخصص من مصرف لبنان وقضاة وضباط أمنيون، وقانونيون، ومختصون في الشؤون المالية والمصرفية للمشاركة في اجتماع للمجموعة في بروكسل. وسيشرح الوفد ظروف لبنان وتعقيداتها من الجوانب كافة، ووضع إدارة "مجموعة العمل المالي" في صورة ما يمكن تحقيقه في لبنان من إصلاحات حاليا، وما تم تحقيقه وما هو غير ممكن.

وفي الوقت عينه يتوجه الحاكم بالإنابة إلى لندن، للتواصل مع المصارف المراسلة، ولإطلاعها على أجواء الواقع اللبناني الصعب والإجراءات المتخذة، وبناء ما أمكن من أواصر ثقة مع إداراتها، تسمح لها بالاستمرار في التعامل مع المصارف اللبنانية، في حال تقرر وضع لبنان على اللائحة الرمادية. وبذلك يزيل القلق من احتمال توقف المصارف المراسلة عن التعامل مع النظام المالي اللبناني، وتاليا توقف عمليات تمويل التجارة الدولية، وكذلك التحويلات المالية من رجال الأعمال والمغتربين اللبنانيين الخائفين من انقطاع التواصل المالي والمصرفي من والى لبنان.

يعرف منصوري ومعه الفريق اللبناني في بروكسل صعوبة إقناع "المجموعة" كليا بوجهة النظر اللبنانية وابتلاء البلاد بتراكم الإهمال الرسمي اللبناني لجميع الملفات الإصلاحية. بالإضافة إلى تعقيدات الوضع السياسي والاقتصادي في لبنان والمنطقة وخصوصا بعد تطورات حرب غزة وانزلاق لبنان فيها، بما أعاد تركيز المؤسسات الدولية، وتحديدا الأميركية واستفاقتها على تعزيز مراقبة حركة الأنشطة المالية وقنواتها المرتبطة بتمويل منظمات وقوى حزبية تصنف في خانة المعادية. وفي حال لم يتحقق للفريق اللبناني مبتغاه لإنقاذ الموقف، يمكن أقله "تليين" الموقف الدولي حيال لبنان، وتحسين لغة التقرير النهائي للمجموعة في تشرين الأول المقبل، وتخفيف قساوة "التعابير" التي ستبرر إدراج لبنان على اللائحة الرمادية.

كل ذلك يحصل، والدولة اللبنانية لم تتقدم خطوة واحدة في محاولة دفع الأذى عن بقايا الاقتصاد، في حال وضعت البلاد على اللائحة الرمادية، فالقوانين الإصلاحية لا تزال تسكن أدراج اللامبالاة، والقضاء لا يعمل كما يجب، فيما الفساد والمحسوبيات تزيد استشراء ووقاحة.

وعلى الرغم من الكتاب "الشديد اللهجة" الذي وجهه منصوري إلى المعنيين حيال خطورة الأوضاع وإمكان وضع لبنان على اللائحة الرمادية، لا أجوبة لدى الحكومة اللبنانية عن الأحكام القضائية التي صدرت في قضايا تبييض الأموال المحالة من هيئة التحقيق في مصرف لبنان. ولا حتى عن مدى التقدم المنجز في قضايا مكافحة الفساد، وقطعا لا أجوبة عن مصادر تمويل المجموعات العسكرية غير الحكومية (paramilitary group)، ومدى الضرر الذي يلحقه ذلك بصدقية السوق اللبنانية، والخوف من اختراقها من المال الأسود، الذي تضع المنظمات ومؤسسات التنصيف الدولية أمر مكافحته في الأولوية القصوى.

قد تكون "رب ضارة نافعة" أفضل توصيف لإحالة لبنان على "الرمادية" في ما لو حصلت. وهو ما قد يحض السلطات التنفيذية والتشريعية على إقرار ما يلزم وما هو مطلوب دوليا من قوانين وتشريعات، والشروع في تطبيق الإجراءات القضائية اللازمة لتفادي الانزلاق الدراماتيكي إلى اللون الأسود لاحقا.

الجلوس عند "الرمادية" سيضع لبنان تحت مجهر المراقبة الدولية والتدقيق الدائمين للتيقن من توجه سلطاته مستقبلا نحو إجراء الإصلاحات المعول عليها والتي تقاعست الحكومة والمجلس النيابي عن السير بها. وقد تستغرق المراقبة نحو سنتين يصار خلالهما إلى تقويم الإجراءات الإصلاحية المتخذة، على أن يصار لاحقا إلى توصية بازالة لبنان عن "الرمادية" أو إسقاطه نحو قعر "اللائحة السوداء".