طلائع حركة نزوح في لبنان تَحَسُّباً لحرب تُقرع طبولها

ما زالت أهوالُ حرب تموز 2006 وفواجعها ماثلةً أمام اللبنانيين. فالاعتداءاتُ الإسرائيلية الوحشية التي تَسَبَّبَتْ بالدمار والقتل وأدت إلى نزوح هائل، حفرتْ عميقاً في الذاكرة التي لم تُشْفَ من الكوابيس السود.

هذه الذكريات المشؤومة تطفو الآن على سطح المشهد اليومي في لبنان على وقع المواجهاتِ على امتداد ملعب النار على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية والتي يُخشى تَدَحْرُجُها إلى حربٍ شاملة، يمكن للمرء معرفة كيف تبدأ من دون أن يدري أحد كيف تنتهي.

ومع كل هَبَّةٍ ساخنة على الحدود يَرتفع مستوى القلقِ في جنوب لبنان وعموم المناطق التي اختبرتْ الحروبَ على مدى عقود، وسط مَخاوفَ من انفجارٍ محتمل في ظل واقع اقتصادي -اجتماعي مأسوي وانقسامٍ سياسي ترزح تحت وطأته البلاد، أقلّه منذ ثلاثة أعوام عجاف.

اللبنانيون الذين اكتووا بنار الحرب مراراً وتكراراً تَحَرّكوا من تلقاء أنفسهم بدافع الخوف والقلق و«التحليلات» المتزايدة عن إمكان انزلاق الوضع نحو الأسوأ... فها هم يسعون إلى أمكنةٍ أكثر أماناً والتحوط من غدرات الزمن، حتى ان عائلات جهّزت «حقائب طوارئ» تحسُّباً لإمكان الاضطرار لمغادرةٍ على عَجَل والابتعاد عن «دوائر الخطر الأعلى».

أهالي القرى الحدودية التي تشهد مواجهاتٍ عسكريةً «مضبوطةً» حتى الساعة وتبادلاً للقصف مع العدو الإسرائيلي غادروا قراهم وفق ما رواه لـ «الراي» رئيس بلدية رميش الجنوبية المتاخمة للحدود ميلاد العلم: «النزوح من البلدة كما من البلدات المجاورة مثل عيتا الشعب وبنت جبيل وعين إبل وغيرها شمل فئاتٍ معينةً كالعائلات التي لديها أولاد صغار أو مرضى يعانون مشكلات صحية ويحتاجون إلى أدوية دائمة وبعض كبار السن، أما مَن تبقى فصامدون في قراهم ومنازلهم.

فالكل متنبّه إلى مشكلة موازية هي النزوح السوري إلى البلدات واستغلال الوضع للتواجد فيها بشكل أكبر».

الوضع الحالي في القرى الجنوبية يختصره «الريس ميلاد» قائلاً «هي بلداتٌ لا تضم ملاجئ للتحصن فيها، ولذا يسعى أهلُها للاحتماء داخل بيوتهم، وقد فتحْنا مدارسنا وكنائسنا وأديرتنا لأهلنا من كل القرى المجاورة كما جهّزنا مستشفى ميدانياً في رميش.

لكن للأسف إمكاناتنا كما كل البلديات لا تسمح بتجهيز الفرش والأغطية والمياه وكل ما يحتاجه النازحون من مناطقهم. أولويتنا تبقى الاهتمام بأهل البلدة. في حرب يوليو استقبلنا 30000 مواطن من القرى المجاورة لكننا اليوم غير قادرين على تأمين احتياجاتهم».

الحكومة اللبنانية لم تحرّك ساكناً حتى الآن في ملاقاة احتمال تطور الأوضاع وانزلاقها إلى ما هو أدهى.

ويقول الحاج سعيد من بلدة راشيا الفخار: «مليون مواطن في الجنوب متروكون لقَدَرِهم، دولتهم لا تسأل عنهم ورئيس الحكومة لم يطلّ في شكل علني ليتوجّه إلى أهالي الجنوب ويسألهم عن احتياجاتهم. أثناء حرب يوليو 2006 أمضينا 33 يوماً في الجحيم وأُقفلت في وجهنا الطرق للنزوح لكننا كنا قادرين على شراء ما نحتاج إليه من أغراض وإن ارتفع ثمنها عشرات الأضعاف. اليوم مَن منا قادر على شراء كيلو عدس بأضعاف ثمنه؟».

أهل الجنوب كما سكان الضاحية الجنوبية لبيروت والذين يعيشون هاجس الاعتداءات كما حمّى الإشاعات يبحثون عن بيوتٍ لهم في مناطق «آمنة».

آل أبو رضا غادروا قرية شبعا وتوجّهوا إلى بيروت والمتن الشمالي، لجأوا إلى أبناء وأقارب لهم بناء على إصرار هؤلاء الذين توجّهوا إلى المنطقة خصوصاً لإجلائهم. وحدها الجدة العجوز هيلين رفضتْ أن تترك بيتَها هناك في شبعا فهي لا تريد أن تغادر وتترك قبرَ زوجها وحيداً.

لكن مقتل زوجين مسنّيْن في قصف على بلدة شبعا جعل مغادرتها أمراً حتمياً.

في بلدة المنصورية المتنية الواقعة على تخوم بيروت، استيقظ أحد السكان صباحاً ليجد الساحةَ أمام منزله مليئة بالسيارات التي تنام داخلها عائلات وأفراد من الصغار والكبار.

فقد سرتْ إشاعاتٌ ليلاً عن استعداد الجيش الاسرائيلي لقصف الضاحية الجنوبية ففضّل عدد من العائلات التوجّه نحو منطقة لهم فيها أصدقاء.

وحين لم تعد تتسع البيوت باتوا ليلتهم في سياراتهم... والمنطقة ككلّ من المكلس إلى برمانا تشهد حركة إيجار مستجدة للبيوت والشقق، فيما تغص الشوارع والمباني بأسئلة يومية من مواطنين قادمين من الجنوب أو الضاحية الجنوبية عن شقق للإيجار.

والأسئلة ذاتها تتكرر في أكثر من منطقة ولا سيما الجبلية، لكن الأمر لم يصل الى ما كان عليه أثناء حرب يوليو 2006، فالطلب ما زال يقتصر على بعض العائلات القادرة على دفع إيجار بالدولار الأميركي (الفريش) ولا سيما ان الكثير من اللبنانيين للأسف يستغلّون صعوبة الأوضاع للإفادة المادية ولو على حساب إخوة لهم في الوطن.

هذا الخوفُ الرابض على صدورِ اللبنانيين دَفَعَ ببعض العائلات إلى ترْك لبنان ولا سيما مَن يملكون جنسية أخرى ويسهل عليهم الانتقال إلى بلدان أجنبية.

وفي اتصال لنا مع إحدى السيدات وهي تملك جنسية بلجيكية قالت: «هل أنتظر حتى يقفل المطار؟ شركة لوفتهانزا أوقفت رحلاتها إلى بيروت (حتى 16 اكتوبر) فهل أنتظر أن يتم قصف المطار كما قُصف مطار حلب؟ العاقل مَن يتحسّب للأمر قبل حدوثه».

ومثل هذه السيدة، غادرت عشرات العائلات لبنان أو اختصرت مدة بقائها فيه وقفلت عائدة إلى مقر سكنها في بلدان أخرى.

وتقول عايدة طويل، وهي مواطنة لبنانية تعيش في دبي وتعودت «النزول» إلى لبنان مرتين شهرياً أنها تفضّل التريث حالياً في زيارة لبنان في انتظار جلاء الأوضاع.

الأحزاب تتحرك

الأحزاب اللبنانية تحرّكت لاتخاذ إجراءات احترازية استعداداً لأي طارئ يمكن أن يؤدي إلى نزوح جماعي. فـ «حزب الله» من البدهي أن يكون تحوَّط لاحتمالات الحرب وأعدّ خطة لاستيعاب ما أمكن من النازحين. والحزب التقدمي الاشتراكي عقد اجتماعاً برئاسة رئيسه السابق وليد جنبلاط لوضْع خطة عملية لإيواء الجنوبيين أو سواهم وأوعز إلى مسؤوليه في القرى والمناطق التي يتمتع بنفوذ فيها بإجراء جردة لكل المدارس والمستشفيات الرسمية والخاصة استعداداً لاستقبال النازحين المحتملين وتقديم كل الدعم الإنساني واللوجستي لهم.

وفي هذا الصدد يقول عمر العريضي وهو ناشط اجتماعي من بلدة بيصور: «أجرينا مسحاً شاملاً لكل المنازل القادرة على إيواء نازحين سواء كان مجاناً أو بالإيجار وبات عدد منها محجوزاً».

وفي السياق نفسه، وضعتْ أحزابٌ مسيحية خططاً لإيواء النازحين في حال حصول الحرب، أما الحكومة اللبنانية فتتّجه لعقد اجتماعٍ تبحث فيه وضع خطة طوارئ استباقية للإجلاء والنزوح في حال حدوث أي تطور جنوباً... في حين أن سفارات غربية عدة آخِرها السفارة الألمانية بعد الكندية وقبلها سفارتا الولايات المتحدة وبريطانيا حذّرت مواطنيها من السفر إلى لبنان إلا عند الضرورة كما نبّهت الموجودين فيه إلى ضرورة تجنب مناطق الصراع لا سيما جنوب نهر الليطاني.

المواد التموينية

وعلى الصعيد المعيشي وفي غالبية المناطق اللبنانية دفعت المخاوف من الانزلاق الى حرب، بالمواطنين إلى السعي للتمون بأساسيات حياتية مثل الحبوب والطحين والمواد الغذائية والمياه وإن في شكل مقبول غير مبالَغ فيه.

إذ حتى اليوم لا تَهافُت يُذكر على أبواب الأفران أو رفوف السوبرماركت.

فما كان اللبنانيون قادرين على تخزينه في الماضي لم يعد ممكناً اليوم بسبب ارتفاع الأسعار. لكن مما لا شك فيه أن ثمة سعياً للتزود أقله بمؤونة إضافية من الأغذية والأدوية وحليب الأطفال والحفاضات تحسباً لأي انقطاع لهذه المواد أو حتى لعدم القدرة للوصول إليها.

وأصحاب المحال يؤكدون على هذا الواقع حتى في المناطق البعيدة و«الآمنة»، رغم طمأنة كل المصادر إلى أن المواد متوافرة لأكثر من شهر على الأقل ولا ضرورة للهلع والتهافت.

ولكن يبقى تخوّف المواطنين الأكبر من أزمة استيراد محروقات ومازوت تعيدهم إلى نقطة الصفر في أزمة التغذية الكهربائية على أبواب شتاءٍ قارس... فهل تكون طبول الحرب على طريقة إنذاراتِ حافة الهوية لمنع وقوعها، أم سيصحّ أن الحرب أوّلها كلام و... مناوشات؟