عن قصتنا مع الشيخ بيار

وصف أحد السياسيين المخضرمين من اتخذوا قرارات باغتيال شخصيات من 14 آذار بـ"الاذكياء جداً"، فهم ينتقون فريستهم بعناية ودهاء شديدين، ليصيبوا منا مقتلاً بتشظية الجسم الذي ننتمي اليه، ويكون لذلك وقع كبير يصعب تخطيه. وتكفي نظرة سريعة الى الاغتيالات في تلك المرحلة لنلاحظ أنها كانت تركز على عقل الثورة وعصبها، من سمير قصير وجورج حاوي الى بيار الجميل وجبران تويني، وقد حققت نجاحاً باهراً نلمس نتائجة اليوم، إذ انهارت الثورة وتشتت الثوار. 

في الذكرى السادسة  عشرة لاستشهاد الوزير والنائب السابق بيار الجميّل، لن نتحدث عنه مع قياديين كتائبيين ولا مع فريق عمله اللصيق، فهم أوفوه حقه خلال السنوات السابقة، انما الحديث عن تجربة شخصية لكاتب هذه السطور، تلخص بعضاً من ادائه وحركته السياسية وطموحه الشبابي.

الشاب المتمرد

كان مفاجئاً خروج مجموعة من الشبان من ابناء البقاع الغربي في اواخر التسعينيات عن نمط الخوف الذي كان سائداً في منطقة تحت القبضة الحديدية السورية، والتجمع وإطلاق حركة مواجهة، وإن يكن عملها يقتصر على لصق البيانات، قبل ان يعلن الشاب بيار امين الجميل ترشحه للانتخابات النيابية وذهابه الى زحلة ، وكان اللقاء الاول معه.

إنه شاب يشبهنا قرر العودة من النفي رغم كل المخاطر والتحدي، فرح بشبان من منطقة لا يعرفها ووعد بالتواصل الدائم. وبعد فوزه في الانتخابات زادت حماستنا، فقررنا الاحتفال بطريقة علنية وانطلقنا بموكب لزيارته، الا ان اللقاء خيب آمالنا، فعوض ان يزيد حماستنا، طلب منا التروي والحذر وتجنب الظهور العلني، "لأن المرحلة خطرة، حفاظاً على سلامتكم وسلامة عائلاتكم، واذا قرروا اذيتكم فلن استطيع مساعدتكم، وعندما تتحسن الظروف وتحين اللحظة سأكون معكم وعندكم في قراكم ومنازلكم". وبالفعل، ما ان عدنا حتى بدأت الاستدعاءات، فتوجه جزء الى ابلح (مخابرات الجيش)، او الى فرع المخابرات في جب جنين، لننال ما نلناه.

العمل الحزبي

فعلت الاستدعاءات فعلتها وابتعدنا، خصوصاً اننا جميعاً نسكن في قرانا،  حتى الانتخابات الفرعية سنة 2002، فقادتنا حماستنا مرة اخرى الى المتن لنلتقي النائب الشيخ ثانية، وكانت هذه المرة نبرته مختلفة فـ"القيد بدأ ينفكك كما وعدتكم والرهان عليكم". لم تمر فترة طويلة حتى فوجئنا باتصال منه لكل بمفرده، يدعونا الى العمل تحت اسم "الحركة الاصلاحية"، والى حضور مؤتمرها في عين سعادة، مشدداً على انه لن يكتفى بحضور ابناء المنطقة الساكنين في العاصمة، بل من يعرفون الارض ومشاكلها". ورغم عودة الاستدعاءات في تلك المرحلة (2003، 2004) لم يقطع التواصل معنا ولو تراجع قليلاً.

وبقيت الامور هكذا الى الفترة التي سبقت استشهاد الرئيس الحريري، وكان بنى اطاراً حزبيا منفصلاً، فأرسل الينا لائحة قديمة بأسماء 220 شخصاً كانوا يحملون البطاقات الحزبية طالباً تأمين ارقامهم، وبعد جهد جهيد نجحنا، ففوجئنا باتصالات تأتينا من هؤلاء الاشخاص تفيدنا بأن الشيخ بيار اتصل بهم وطلب منهم التعاون معنا، لنعلم لاحقاً انه اتصل بالـ220 جميعهم.

وفي مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس الحريري، كان قد زاد عددنا ونظمنا نفسنا، فكان التواصل شبه يومي رغم جميع انشغالاته. اهتم بالامور اللوجستية للمشاركة في التظاهرات، وصولاً الى انتخابات 2005. ورغم ما اصابنا من خيبة بعد نتائج الانتخابات، عاود الاتصال بنا ليبلغنا انه سيولي الاطراف أهمية استثنائية ضمن وزارته وعلاقته الجدية مع رئيس الحكومة في فريق 14 آذار، رافعاً معنوياتنا ومؤكداً أن خسارة معركة لن تجعلنا نخسر الحرب، وسنعود للعمل على الارض لتعويض ما خسرناه.


بيار والشباب

في سياق متصل، وفي خطوة تدل على اهتمامه باستعادة جيل الشباب والرهان عليهم، دعانا الى أحد الاجتماعات في وزارة الصناعة ليشرح خطوة توحيد حزب الكتائب، تحضيراً لزيارة ينوي القيام بها للبقاع الغربي. وبوجود نحو 30 شخصاً، أخذ يسأل كل شخص عن قريته ومهماته الحزبية، فسأل أحد الموجودين عن اولاده وما اذا كانوا حزبيين، فأجابه بأن لديه ثلاثة اولاد احدهم قواتي والثاني عوني والثالث يدرس علوما دينيا ولا تهمه السياسة. وعاد ليسأله عن مسؤولياته الحزبية، فأجيبه بأنه رئيس قسم. فعلّق: إذا كنت لم تستطع ان تقنع افراد عائلتك فكيف ستقنع ابناء قريتك؟ يبدو ان المنصب بحاجة الى تغيير. وخلال المناقشة، لاحظ وجود خمسة شباب في الاجتماع، فسألهم عن قريتهم ومهماتهم ليتبين انهم من قرية واحدة، والخمسة جامعيون، فترك موقعه على رأس طاولة الاجتماعات وجلس بينهم، وقال: "اليوم تذهبون وتفتحون مكتباً في قريتكم، وأنا اموّله، وسيكون اتصالكم بي أنا مباشرة من دون وسيط للمساعدة في جامعاتكم ومدارسكم ومشاريعكم في قريتكم. ممنوع نقل النفوس او الانتقال الى المدينة. سنحاول تأمين أعمالكم في قراكم".

وبالفعل، رغم كل الانشغالات، لم أذكر يوماً أن أحدنا اتصل به ولم يجب، كان يتابع التفاصيل الصغيرة، في البلدية والاعراس واتصالات التهنئة بالنجاح في الشهادات، ولم يهمل اي تفصيل طلبناه منه.

زيارة لم تتم

تطورت الامور وبنينا قاعدة جيدة، وحان وقت الوفاء بالوعد وزيارة المنطقة. وبعد انتهائنا من التحضيرات، واثناء الزيارة للكتائب في الصيفي لتحديد الموعد، كان اجتماع المكتب السياسي لم ينته، فقابلنا للمرة الاولى احد مساعديه ليبلغنا ان الوضع الامني لا يسمح بالزيارة، وان الوزير مواعيده مقفلة لأكثر من شهرين. وقبل ان نغادر شاهدنا، فترك الاجتماع وخرج الينا وسألنا عن الموعد، فأجابه مساعده بأنه غير ممكن حالياً، فانتفض وأصر على الزيارة: "صرلي 16 سنة ناطرها، عيّن موعدا الآن". فرضخ المساعد وعينه في 29 تشرين الثاني، ولكن للحظة انتبانا نحن الخوف هذه المرة، فعدنا وأكدنا أنه اذا كان الخطر امنياً، ولو ضئيلا، نؤجلها، فأجاب "لما يقتلوني انتو بتكملوا"... تركنا الصيفي وسبقتنا يد الغدر في 21 تشرين الثاني ولم تتم الزيارة.