قرن على مجاعة لبنان الكبرى: هل تعلّم اللبنانيون أي درس؟

"سنموت جوعاً قبل أن يقتلنا فيروس كورونا"... صرخة أطلقتها سيدة ثمانينيّة شاركت في تحرك معارض منذ أيام معدودة في طرابلس. حال هذه المرأة لا يختلف عن مئات المحتجين الذين ملأوا شوارع بيروت، وطرابلس، وصيدا، وسواها من المدن اللبنانية، مطالبين برغيف خبز يسدّ جوع أبنائهم.

كأنه مكتوب على لبنان أن يعيش الويلات والمصائب عينها كل مئة عام. ففي وقت كان يستعد لبنان الرّسمي للاحتفال بمئويته الأولى، لاحت في الأُفق هذا العام فصول المجاعة التي أدّت قبل قرن من الزمن الى هلاك أكثر من ثلث سكّانه، نتيجة حصار مزدوج (بحري وبرّي) فرضه العثمانيون وقوات الحلفاء خلال الحرب العالميّة الأولى، وبفعل اجتياح الجراد الذي قضى على الأخضر واليابس، وتفشّي الأوبئة والأمراض في الشّوارع والأزقّة التي امتلأت بجثث الرّاقدين. تنوّعت أسباب المجاعة يومها، بين العوامل السّياسيّة والطّبيعيّة والاجتماعيّة، إلا أنّ النّتيجة كانت واحدة: جوع وألم وموت!

بين عامي 1914 و1918، عاشت الدّولة العثمانيّة في ارتعاشة الاحتضار، الحرب العالمية الأولى تزيد ويلاتها، سكّان لبنان على آخر رمق، الدّماء تملأ الشّوارع، الدّول تتطاحن، المدافع تقذف نار كراتها، النّفوس تتألم، الجوع ضرب أطنابه في ربوعنا، المطامع تفعل فعلها، الناس في جزع وخوف، اليأس يتسلل إلى القلوب، الموت البغيض يفتك بالسّكان واحد تلو الآخر؛ إذ ذاك مَلكَ مشاعر الناس همّ واحد هو تأمين الإعاشة، حتى تضاءلت لديهم سائر همومهم. مما لا شك فيه أن لبنان عانى ويلات الحرب الكونيّة وأهوالها الكثيرة، إذ سُدّت طريق الاستيراد، فقلت البضائع وخلت الأسواق من ضروريات الحياة، وارتفعت الأسعار ارتفاعاً جنونياً وإنهارت العملة، وبرز شبح المجاعة المخيف ليزيد الطّين بلّة، فكانت البأساء والضراء شاغل النّاس وعنوان أيامهم، وطالت معظم المدن والقرى اللبنانيّة.

 

هذه السّطور ليست مأخوذة من صحف اليوم التي تروي واقعنا الحالي، بل هي وصف لما مرّ به لبنان منذ مئة عام. المريب أنّنا لم نتعلم من تاريخنا، فالظُروف عينها عاودت لتطرق بابنا، الويلات نفسها، حتّى الوجوه هي هي..

فلنعد للعام 1915: مع انطلاق شرارة الحرب العالميّة الأولى، كانت البلاد رازحةً تحت نير احتلالٍ ظالمٍ يعاونه شلّة من المحليين، يسعون بؤساً وفساداً في البلاد: إقطاعٌ متسلّطٌ متوارث، ظلمٌ في فرض الضرائب وغبنٌ في جمعها، سرقة لأرزاق الشّعب وحرمانه من أبسط مقومات الحياة... أدخل هذا الاحتلال، بجناحيه، لبنان في صراعات كونيّة لا قدرة له على احتمالها، فما لبث أن تناتشته أمم المسكونة من مشارقها الى مغاربها. يقول وليم شكسبير: "البلايا لا تأتي فرادى كالجواسيس، بل سرايا كالجيش"، هكذا كانت حال لبنان: فبعد أن أجهز عليه الفساد والظلم والطّمع (حتى أصبح تأمين قوت اليوم هدفاً بحد ذاته)، انهارت الليرة العثمانيّة المتداولة في البلاد، فشحّ الذهب من السّوق بعد أن صادره البنك المركزي العثماني لتمويل حربه، واستعاضت عنه السّلطات الماليّة بتوزيع أوراق نقديّة على النّاس من دون أي غطاء فعلي لهذه العُملة. وإذ تكاثرت كميّات "الورق" التّي أنزلتها إلى السّوق، هبطت قيمة هذه العملة بالنّسبة للنّقد الذّهبي هبوطًا كبيرًا، مع إصرار حكومة الأناضول على الحفاظ على سعر ثابت لها، واعتبار الليرة الورقيّة مساوية لليرة الذهبيّة، فأجبرت النّاس على قبضها والتّعامل بها.

وكانت نكبة البلاد من هذه "العملة" مزدوجة، فقد أضاعت الجزء الأكبر من ثروة اللبنانيين، وأحدثت ركودًا في حركة البيع والشّراء: إذ إنّ الناس تجنّبوا التّداول بها وفضّلوا أن يحتفظوا بما عندهم من منتجات وغلال عوض التّفريط بها مقابل أوراق صادرة عن دولةٍ مرهقةٍ بنفقات الحرب الباهظة. وهكذا، انهار الواقعان الاقتصادي والنّقدي في لبنان، ودخلت البلاد في المجهول. يحدّثنا المؤرخ الدّكتور جورج حنّا عن تلك الحقبة في كتابه "قبل الغروب" (ص 65) فيقول: "كنت قد قضيت ليلة كاملة في القطار من دون أن يكون لدي ما أتناوله. وإذ نزلت في المحطة، التقيت بائع كعك بسمسم، واشتريت منه كعكة بعشرة قروش. وعندما نقدته الثّمن ورقة نقديّة، شخص إليّ بأكثر ما يكون من الازدراء ورمى الورقة بوجهي قائلاً: (نحنا ما منقبض شراطيط... نحنا ما منبعث مكاتيب بالبوستة)، وهو يعني بهذا أن العملة لا تصلح إلا لشراء تمغة البريد".

شهدت نهاية العام 1915 تعيين جمال باشا (وزير البحريّة العثماني الملقب بالسّفاح) حاكماً على لبنان وسورية وفلسطين، في محاولة لمواجهة الحركات العربيّة المطالبة بالاستقلال والتّحرر من المحتل. واقع الأمر، أنّ السّلطات العثمانيّة، التّي دأبت طِوال قرون حُكمِها للبلاد على بثّ الفتنة والنّعرات الطّائفيّة بين أبناء الشّعب الواحد حتّى ترسّخ وجودها وهيمنتها إنطلاقاً من مبدأ "فرّق تسد"، قد أغضبها قرار اللبنانيين التوحّد والتّعالي عن مشاكلهم وإنقساماتهم بُغية مواجهتها، وصنّفتهم على أنّهم خونة وأعداء الأناضول: يومها، توحّد اللبنانيون حول راية واحدة، تناسوا خلافاتهم الدّاخليّة في المتصرفيّة، وطالبوا بتحييد لبنان وإعتاقه من حرب المحاور التّي ما أتت عليه إلّا بالويلات والمصائب.

"نحكم أو نقتل ونخرب وندمر ونهلك الحرث والنّسل ونحرق الأخضر واليابس". إنطلاقاً من هذا القول، عمد جمال باشا إلى رفع المشانق في بيروت ودمشق، ظنّاً منه أنّه يستطيع قتل حلم شعب بالاستقلال والتّحرر بمجرّد اغتيال نخبته المثقّفة، فكانت إعدامات السادس من أيار 1916 في المدينتين الفاتحة لمزيد من الجرائم بحق هذا الشّعب.

لم يغتل جمال باشا في أيار 1916 مجموعة من المفكرين والأدباء والصحافيين ورجال الدّين فحسب، بل قطع آخر ما كان يمكن أنّ يربط الرّعية العربيّة بحكّامها الأتراك. شكّلت مشانق بيروت ودمشق سبباً رئيسياً لقيام الثّورة الوطنيّة ضد العثمانيين في حزيران من العام نفسه وأشعلت شرارة الإعدامات نار الغضب في نفوس اللبنانيين وعموم الشّعوب الخاضعة لسلطة الأناضول ضد الاحتلال العثماني.

لم تفارق الويلات اللبنانيين، فغزت في تلك الأيام أسراب الجراد "التي حجبت نور الشّمس"، والتهمت الأخضر واليابس وقضت على كل ما يمكن للمرء أن يتناوله، فاستوطن الجوع ومعه مسببات المرض في كل مكان، حتّى قيل أنّه "إن لم نمت من المرض والأوبئة، فسنموت جوعاً". يروي المؤرخ كريستيان توتل نقلاً عن مذكرات الآباء اليسوعيين من تلك الحقبة: "كانت النّاس بفعل الجوع والأمراض تنهار على الأرض ويتقيأون دماً (...) وكانت جثث الأطفال تُرمى بين أكوام النّفايات".

سياسيّاً، ساعدت المجاعة العثمانيين في مخططاتهم: فَعِوَض أنّ يهتمّ اللبنانيون بالحركات الثّوريّة والتّحرريّة ومكافحة فساد حكّامهم، راحوا يبحثون عمّا يسدّون به جوع أبنائهم. يُحدثنا جبران عن مجاعة لبنان فيقول في قصيدته "مات أهلي": "لم يمت أهلي متمردين، ولا هلكوا محاربين، ولا زعزع الزلزال بلادهم فانقرضوا مستسلمين. مات أهلي على الصّليب. ماتوا صامتين لأن آذان البشريّة قد أغلقت دون صراخهم، ماتوا لأنهم لم يحبوا أعداءهم كالجبناء ولم يكرهوا محبّيهم، ماتوا لأنهم لم يكونوا مجرمين، ماتوا لأنهم لم يظلموا الظالمين، ماتوا لأنهم كانوا مسالمين، ماتوا جوعاً في الأرض التي تدرّ عسلاً. ماتوا لأن أبناء الأفاعي التهمموا كل ما في حقولهم من المواشي وما في أحراجهم من الأقوات".

ممّا فاقم الأزمة المعيشيّة والصّحيّة والإقتصاديّة سوءاً، هو اعتبار حكومات الحلفاء، لبنان شريكاً في الحرب إلى جانب دول المحور باعتباره جزءاً من الدّولة العثمانيّة، فعمد الفرنسيون، وهم المسيطرون على السّاحل اللبناني وموانئه، إلى فرض حصار بحريّ شامل خَنَق الجبل وسكّانه، الذين مُنعوا من الوصول إلى البحر للصّيد أو استخراج الملح أو حتّى إستيراد المواد الأوليّة الضّروريّة للحياة البشريّة من حبوب ومؤن. وللأمانة التّاريخيّة، فقد غسل الجميع أيديهم من هذا الحصار ومن مفاعيله المأسويّة على اللبنانيين، إذ تحجّجت معظم الحكومات الحليفة حينها أنّ الحصار فُرِضَ لقطع الإمدادات عن القوات العسكريّة الموجودة في البلاد لا عن الشّعب الجائع. أما واقع الحال، فقد كان كارثياً على اللبنانيين دون سواهم: فقد أمدّ العثمانيون ألويتهم بالمؤن الكافية للصّمود (والمُصادرة من مخازن الفلّاحين اللبنانيين) وإشباع الجنود، وعمدوا في المقابل إلى فرض حصار برّي (غير مبرر عسكرياً) حول الجبل لضرب خاصرة الفرنسيين في المنطقة، المسيحيين.

وهكذا، سقط ما يزيد عن مئتي ألف لبناني ضحيّة الفقر والجوع والمرض والحصار، في صراع الدّول الكبرى التّي أُرغم لبنان مُكرهاً على دخوله علاوة على كل ويلاته، وسُلبَ أبناؤه كل الحقوق، حتّى الحق بالحياة وتقرير المصير..

في كتب التّاريخ فصل واحد من أربع صفحات يحدّثنا عن المجاعة ومسبباتها في لبنان، أربع صفحات يحفظها التّلاميذ في الصّفوف الإبتدائية وتطوى معها الصّفحة إلى ما لا نهاية، فلا تبقى في الذّاكرة إلا صور أسراب الجراد التي غطّت سماء لبنان، وجثث الأطفال المترامية على الطّرقات.. لا عجب لِما لا طرابليتعلّم اللبنانيون من ماضيهم، فإنّهم لو قرأوا كُتُب الأمس بأَعيُن اليوم، لعلموا أنّ التّاريخ يعيد نفسه بأدقّ التّفاصيل وأشدّها إيلاماً.

إنّ ما يمّر به لبنان اليوم ما هي إلّا أزمة ثقة متبادلة بين طبقة سياسيّة تَعِدُ بالإصلاحات وبمكافحة الفساد ولا تَفِي، وبين شعب يَعِدُ بعدم التّجديد لهذه الطّبقة الحاكمة ويتوعّد بالثّورة عليها ولا يفي ويبقى خانعاً، ذليلاً، راضخاً لظلمها.

هي أزمة ثقة متبادلة بين أيادي خارجيّة بحلّة محليّة تزج البلاد حطباً في نار صراعات كونيّة لا قدرة للبنان على احتمالها، وبين شعب يبرر لجماعات كهذه ويحمي شذوذها فيرتضي لنفسه أن يكون ضحية هذه الحروب ورمادها.

هي أزمة ثقة متبادلة بين سلطة نقديّة أمعنت في إذلال اللبنانيين ومصّ دمائهم وسرقة مدّخراتهم، وبين شعب ينتقد سياساتها الماليّة وخططها الاقتصاديّة التّي أوصلتنا لما نحن عليه اليوم، ثم يُسارع لسحب فوائد أموال راكمها طوال سنين، يوم كان يهلّل لهندسات كهذه.

بالحقيقة، التاريخ لا يُعيد نفسه كما يُشاع، بل الإنسان هو من يكرّر حماقاته ولا يتعلم من زلّاته وأخطائه!