لبنان لم يعد بخير... وحكم بلا مؤسّسات... ورئيس!

باختصار، لبنان لم يعد بخير... هي الخلاصة التي تأتيك بعد استعراض تجارب سابقة شكلت عقبات أمام انتخاب رئيس للجمهورية، في المواعيد الدستورية.

كانت مرحلة ما بعد الطائف أقل ديموقراطية من التجربة التي سبقتها. في هذه المرحلة، تعاقب على سدّة الرئاسة خمسة رؤساء، هم: رينيه معوض، الياس الهراوي، إميل لحود، ميشال سليمان، وميشال عون.

5 رؤساء مع تمديدين وحالات فراغ ثلاث كانت كفيلة بإبراز حجم التقهقر الديموقراطي – الانتخابي ما بعد الطائف.

وفي كل حقبة عقبة... إمّا تمديد وإمّا فراغ وشغور رئاسي طويل، الأمر الذي يوحي بأن منسوب الديموقراطية في مسار انحداري.

الرئيس الأول: رينيه معوض اغتيل. دخلت البلاد عهد الوصاية السورية رسمياً. سكت المدفع. انتخب الرئيس الياس الهراوي. بدأ الإعمار، لكن المجتمع السياسي اللبناني لم ينفض عنه آثار الحرب، وخصوصاً عند الطرف المسيحي الذي شعر بالإقصاء و"الإحباط".

 

"لائحة شرف" وحرب

عام 1995، وقعت الأزمة الحقيقية حين تم تعديل الدستور من أجل التمديد للهراوي ثلاث سنوات إضافية. هنا، بدأت نغمة التمديد تدخل على القاموس اللبناني. استمرت المعارضة المسيحية بتقوية بيتها الداخلي، على الرغم من نفي القادة المسيحيين وسجنهم واعتقال الناشطين... لكن الصوت المعارض ضد التمديد وضد سوريا بالذات كان ارتفع كثيراً وبدأ يفعل فعله.

مجدداً، وتحت مظلة الوصاية السورية، انتُخب الرئيس إميل لحود خلفاً للهراوي. هو أتى من "فرح الناس" وغادر على وقع حملة "فل". الانقلاب على عهد لحود كان كبيراً، أشعل حجم الكوارث الجسم اللبناني ككل. موجة اغتيالات لا سابق لها، من حيث الفترات الزمنية القصيرة الفاصلة بين اغتيال وآخر. لم يبق صوت حرّ معارض ضد النظام السوري وممارساته، حياً يُرزق. رئيس حكومة، إعلاميون، شباب مناضلون، وزراء، نواب من "لائحة الشرف" الذين وقفوا سداً منيعاً ضد التمديد للحود... لم يبق منهم إلا القلائل... كانت لغة الموت وأداته تمر على الواحد تلو الآخر... حتى وصلنا الى فراغ مقيت وخطير، ليس على مستوى الرئاسة الأولى فقط، بل أيضاً على مستوى القيادات والمؤثرين الحقيقيين في الرأي العام.

وفي تموز عام 2006، وقعت الحرب... انسحب الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وضُربت الميثاقية... وعلى وقع كل ذلك، غادر لحود، وحيداً، قصر بعبدا، في 24 تشرين الثاني 2007... وكان الفراغ الأول في سدّة الرئاسة الأولى.

حتى 25 أيار 2008. استمر الفراغ الى حين انتخاب الرئيس ميشال سليمان. لكن قبل كل ذلك، وقع الكثير من الحوادث، ومنها الدامية. فكانت أحداث 7 أيار 2008. وسريعاً، تحرّك الخارج لوأد الفتنة. فكان "اتفاق الدوحة" الشهير الذي كرّس ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.

وككل العهود... يمر النصف الأول "بسلام"، وتعصف الحوادث في النصف الثاني منه...كأنها تركيبة لبنانية ثابتة. عام 2011، بدأ "الربيع العربي". وعرفت الأعوام الثلاثة الأخيرة من عهد سليمان بعض الاضطرابات الأمنية والتفجيرات. عام 2013، استقالت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. نحو 11 شهراً، بقي الرئيس تمام سلام "يدور" حتى يتمكّن من تشكيل حكومة، والبلد غارق في فراغ لما يقارب العام.

بعدها، تشكلّت حكومة "بالتي هي أحسن" من أجل تقطيع مرحلة الفراغ الرئاسي التي باتت أمراً واقعاً لا مهرب منه.

25 أيار 2014، انتهى عهد سليمان... وحلّ الفراغ الرئاسي الثاني. عامان وستة أشهر، ونحو 45 جلسة انتخاب لرئيس جمهورية يخلف سليمان... ولا رئيس... الى أن وُقّع "اتفاق معراب" الشهير وأتى الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الأول 2016.

 

عهد عون

... ومن ذاك التاريخ... من أين نبدأ؟

عاد عون الى "قصر الشعب". هو "الرئيس القوي"، لكن عهد عون كان عهداً غير مسبوق بأزماته السياسية، المالية، المعيشية وحتى الصحية... وكأن كل "الويلات" المقصودة وغير المقصودة، الطبيعية وغير الطبيعية، حلّت على لبنان في تلك الولاية الرئاسية.

وربما هو استثناء بحيث لم "يقلّع" العهد أصلاً في نصفه الأول حتى " يتداعى" في نصفه الثاني، كما جرت العادة في العهود السابقة، لكن قبل أن يصل الى منتصفه بدأت تباشير الأزمة المالية تلوح في الأفق حتى "انفجر" "الحراك الشعبي" أو ما يُعرف بـ"ثورة 17 تشرين الأول 2019"...

ومنذ ذاك التاريخ، تبدّلت الصورة كثيراً... أزمات تلو الأخرى، انهيار دراماتيكي لليرة اللبنانية ولمعيشة اللبناني... ولعلّ صورة انفجار المرفأ في آب 2020 طبعت عهد عون بالكامل... لأنها صورة تفجير قلب العاصمة التي لا تليق بأحد، لا شعباً ولا مسؤولين.

تكاد تلك الصفحة تختم عهد عون قبل أن ينتهي رسمياً في 31 تشرين الأول 2022...

هكذا، مجدداً الى الفراغ... إنه الفراغ الرئاسي الثالث في جمهورية الطائف!

حتى الآن، مرت 12 جلسة انتخاب... ولا رئيس للجمهورية. "أبهى" هذا الشغور تجلّى بالجلسة الـ12 لانتخاب رئيس، وكانت الجلسة الأخيرة التي عُقدت الى الآن. كان ذلك في 14 حزيران 2023، إذ كيف يمكن الذهاب الى جلسة انتخاب، بمرشحين واضحين، فيما تفضي النتيجة الى: "لا رئيس". هل من تفسير ديموقراطي – سياسي لهذه الظواهر اللبنانية؟

هي تراكمات على مدى أعوام، أفقدت اللعبة السياسية أدواتها، إذ دخلنا في نمط كرّسته سلسلة ممارسات من التعطيل والتهميش، حتى بدأنا نعتاد على فترات واسعة من الفراغ الرئاسي وحكومات تصريف اعمال وتمديد لولايات نيابية وبلدية، وسط مسار تآكلت معه الديموقراطية وضربت مؤسسات وسلطات ثلاث أساسية في تركيبة النظام. ولعلّ أخطر ما في هذه "البانوراما" أننا بتنا في حالة حكم بلا مؤسسات.

بالفعل... لبنان لم يعد بخير!