لماذا تُصرّ إسرائيل على إطلاق الفوسفور الأبيض على جنوب لبنان بشكل ممنهج؟

جنوب لبنان تحت مرمى الفوسفور الأبيض، هذه الحقيقة وثقتها منظمة "هيومن رايتس ووتش" من خلال تقرير يؤكّد استخدام إسرائيل ذخائر الفوسفور الأبيض في 17 بلدة على الأقل في جنوب لبنان منذ تشرين الأول 2023، خمس منها استُخدمت فيها الذخائر المتفجّرة جوّاً بشكل غير قانونيّ فوق مناطق سكنية مأهولة.
 
وأمام إصرار إسرائيل على اتباع سياسة الأرض المحروقة بشكل ممنهج ومتعمّد، لم يتّخذ لبنان خطوات فعالة لمحاسبتها على جرائم الحرب التي ترتكبها في حقّه منذ الحرب على غزّة. تواصل إسرائيل خططها في حرق "الأخضر واليابس"، فهي تعمل على ضرب لبنان على المدى القصير والطويل، وحرق المحاصيل الزراعيّة والأشجار بهذه الوتيرة المستمرّة هدفه تحويل جنوب لبنان إلى أرض غير مأهولة زراعيّاً وسكانيّاً.
 
ولكن ماذا فعلت الدولة اللبنانية في المقابل؟ تراجعت عن قرارها في إعطاء صلاحية للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب المرتبكة في لبنان، ومن بينها استخدام الفوسفور الأبيض. واكتفت الدولة اللبنانية من جهة أخرى في تقديم 22 شكوى إلى مجلس الأمن الدوليّ ضدّ إسرائيل، من دون أن يثمر ذلك عن أيّ نتيجة.
 
ونتذكر جيّداً أنّه بعد عدوان 2006، تقدّم لبنان بشكوى بعد التسرّب النفطيّ في منطقة الجيّة، وارتأت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن تغرّم إسرائيل بدفع مبلغ 850 مليون دولار كتعويض للبنان، ولكن لم تدفع إسرائيل شيئاً منها. فهل تُحرّك الـ22 شكوى ضمير إسرائيل لمحاسبتها والتعويض عن الخسائر البيئيّة الفادحة؟
 
تطالب المنظمات الدولية بقانون دوليّ أقوى بشأن الأسلحة الحارقة، خصوصاً أنّ الفوسفور الأبيض تسبّب حتى الآن بإصابة 176 شخصاً على الأقلّ منذ تشرين الأوّل وفق تقرير وزارة الصحّة اللبنانية، إلى جانب حرق 4.6 ملايين متر مربّع أي ٤٦٢ هكتاراً من المساحات الخضراء، التي تقدّر بعشرات ملايين الدولار.
 
يشرح المحامي فاروق مغربي لـ"النهار" أنّ "الفوسفور الأبيض بشكل عام غير محرّم دولياً إلّا أنّ استخدامه بهذه الطريقة على المدنيين والمناطق الآهلة والزراعية تجعله غير قانونيّ، وبالتالي يصبح محرّماً استخدامه بهذه الطريقة لأنّها جريمة حرب".
 
في حين اعتبرت "هيومن رايتس ووتش" أنّ استخدام إسرائيل الفوسفور الأبيض على نطاق واسع في جنوب لبنان يُبرز الحاجة إلى قانون دوليّ أقوى بشأن الأسلحة الحارقة. "البروتوكول الثالث لاتفاقية الأسلحة التقليدية" هو الصكّ الوحيد الملزِم قانوناً والمخصّص تحديداً للأسلحة الحارقة. لبنان طرف في البروتوكول الثالث، لكنّ إسرائيل ليست طرفاً فيه".

فما الذي على الدولة اللبنانية فعله؟ برأي مغربي أنّ "على الدولة اللبنانية أن تسلك مسار إعطاء صلاحية للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب المرتبكة في لبنان منذ تشرين الأول2023، حيث يكون الفوسفور الأبيض من ضمن المخالفات التي ارتكبتها إسرائيل، بالإضافة إلى قتل الصحافيين والمدنيين. وتقدّم ضمن تقرير مفصّل بكلّ التفاصيل، وترسل إلى المحكمة الجنائية الدولية لطلب التحقيق منها ضمن فترة زمنية محدّدة.
 
وبهذه الطريقة يكون لبنان قد اتّبع المسلك القانونيّ الأساسيّ للمحاسبة على جرائم الحرب بدل تقديم شكاوى إلى مجلس الأمن والتي لم تثمر عن أيّ نتيجة".
وكانت الحكومة اللبنانية قد نشرت قراراً معدّلاً مرتبطاً بالتحقيق في جرائم حرب لم تأتِ على ذكر المحكمة الجنائية الدوليّة، وجاء فيه أنّ لبنان سيتقدّم بشكاوى إلى الأمم المتّحدة بدلاً من ذلك. َ                                                                                                                                                                                                                                                        يأت 
شهدت المناطق الجنوبية قصفاً متواصلاً بالقنابل الفوسفورية منذ اليوم الثاني من حرب غزة، وأدّت إلى إصابة العشرات نتيجة التعرّض للفوسفور.
علي سمير واحد من كثيرين أصيبوا بعد تعرّضه للفوسفور الأبيض في بلدته البستان، ويقول لـ"النهار" إنّه "في شهر شباط، ضربت إسرائيل قنابل الفوسفور الأبيض ما أدّى إلى استنشاقي كمية كبيرة منه. دخلتُ إلى المستشفى ليوم واحد بسبب ضيق في التنفّس واحمرار وانزعاج في العينين. وما زلتُ حتّى اليوم أعاني من دموع في العينين".
 
بقي علي في بلدته ليحرس منزله ومزرعته في حين نزلت عائلته إلى مدينة صور. كُتب عليه أن ينجو أكثر من مرة بعد تعرّض بلدته لاعتداءات إسرائيلية عديدة، وفي الضربة الأخيرة شاهد علي كلّ تعب عمره على الأرض. يؤكّد أنّه "لم يبقَ شيء واحد، راح البيت وراحت المزرعة وما بقى عندي شي، لم يعد لدي "لا حجر ولا شجر".

أشجار الزيتون والمحاصيل الزراعية أصبحت سراباً، حالها كحال كثيرين من أهالي الجنوب الذين خسروا رزقهم بسبب استخدام إسرائيل للفوسفور الأبيض بشكل ممنهج ومستمرّ. لا يُخفى أنّ "ما تتعمّده إسرائيل تطبيق سياسة الأرض المحروقة. هناك أشجار زيتون عمرها سنين وسنين إحترقت بكاملها، ما ورثناه عن جدودنا تحول إلى رماد".
 
يوضح رئيس بلدية البستان أحمد عدنان أنّ "بلدته الحدودية تعرّضت في هذه الحرب إلى قصف ممنهج وبشكل كثيف خصوصاً بالقنابل الفوسفورية. وأدّى ذلك القصف إلى إحداث ضرر كبير في المزروعات لاسيّما بساتين الزيتون والأشجار المثمرة، كما تسبّبت القنابل الفوسفورية بحرائق كبيرة على مساحات واسعة".
 
يتخوّف عدنان أن "تكون التربة تضرّرت بشكل كبير بحيث تصبح غير صالحة للزراعة لسنوات طويلة، وعلى ما يبدو أنّ هدف إسرائيل هو حرق مساحات واسعة من المزروعات وكروم الزيتون حتى تصبح كلّ تلك الأراضي غير صالحة زراعيّاً. ونحن في حاجة بعد انتهاء الحرب إلى إجراء دراسات ميدانية للتربة والمزروعات للتأكّد ما اذا كان الفوسفور حارقاُ أو هناك آثار طويلة المدى".
 
 ما يطرحه عدنان لا يختلف عمّا تحاول جمعية "الجنوبيّون الخضر" متابعته لتقصّي الأضرار الفعلية على المدى القصير والمتوسط والبعيد. وفق رئيسها هشام يونس "ما زال من المبكر إصدار نتائج دقيقة عن الأضرار الناتجة عن الفوسفور، وما يصدر اليوم هو تقديرات أولية تحتاج إلى مسح مفصل يطال كلّ متر من الأراضي المحروقة والمستهدفة حتّّى نتمكن من تحديد مدى الضرر الفعليّ وحجمه".


ويشدّد على أنّ "تقديرات الفوسفور الأبيض يختلف تماماً عن تقديرات الأضرار الناتجة عن أنواع القذائف الأخرى، لأنّ قذيفة الفوسفور التي تحتوي على 120 شظية تنتشر على مئات الأمتار وتترك أثاراً مختلفة عن القذائف التقليدية. وبالتالي تقدير حجم الضرر يكون مختلفاً تماماً لأنّه يمتد لمساحات أكبر وبأثر أبعد، كما إنّ وجود بعض العوامل مثل الرياح والجفاف وغيرها تلعب دوراً في زيادة ضررها. وقد شهدنا على حرائق كبيرة سببتها القذائف الفوسفورية مثل ما حصل في منطقة العديسة وحرج مركبا منذ أيام".
 
ومن المهمّ أن نعرف أنّه عندما نتحدّث عن الفوسفور الأبيض فنحن لا نقصد فقط الضرر المباشر بل يتخطّاه إلى ضرر طويل الأمد بسبب #تلوث التربة وطبيعة الحريق. نحن أمام حرائق مع مواد ملوثة ونحن بحاجة إلى تقدير حجم الضرر والتلوّث حتّى نتمكّن من تقدير حجم الضرر الفعلي وبمرحلة لاحقة وضع خطة إعادة تأهيل للمناطق المتضررة.
 
وعليه، يرى يونس أنّه "يجب أخذ عينات بالآلاف لتقدير حجم الضرر بالتربة والزراعة في كلّ مكان قبل الحديث عن أيّ شيء آخر".


منذ الأيام الأولى، وثّقت جمعية "الجنوبيّون الخضر" كما المنظمات الأخرى ومنها "هيومن رايتس ووتش" استخدام إسرائيل للقنابل الفوسفورية. ولا يخفي يونس أنّه "كان واضحاً أنّ هناك توجّهاً لإحداث أضرار جسيمة وطويلة الأمد بهدف إخلال النظام البيئيّ بشكل كامل. نحن نتحدّث عن منطقة تتجاوز حدود الـ 100 كيلومتر، والاستخدام الكثيف والممنهج لقنابل الفوسفور الأبيض كان يهدف إلى جعلها مناطق غير قابلة للحياة".