منصوري يحضّ على التسليف مجدداً... فهل تتجرّأ المصارف؟ ووفق أي شروط ؟

5 لاءات تحكم مسار عبور أيّ اقتصاد من الجمود والشلل إلى النموّ والتقدّم. لا استثمار بدون تمويل، لا تمويل بدون تسليف، لا تسليف بدون مصارف، لا مصارف بدون سيولة، ولا سيولة بدون قوانين وتشريعات تحمي حقوق المُقرِض والمقتَرِض على حدٍّ سواء.


ولكن، لا يزال تلكؤ الدولة عن إقرار ما يلزم من قوانين إصلاحية، وخصوصاً ما يرعى منها عملية التسليف المصرفي، وأهمّها البند المتعلق بإلزام المقترض من المؤسسات المصرفية والمالية، إعادة ما استلفه، وما اقترضه منها، بالعملة عينها التي تمّت بها عملية التسليف. هذا التعديل البسيط الذي يحتاج إلى جملة واحدة لا تتعدّى كلماتها عدد أصابع اليد، يحتاج إلى إرادة شاملة، وجرأة حكومية وبرلمانية في مقاربة الوضعين المالي والنقدي، والتحلي برؤية ديناميكية للتحرّر من القوانين المكبّلة للتسليف والإقراض وتالياً للتمويل.


حجّة سيادية العملة الوطنية، أهدرت الدولة ما يقرب من 20 مليار دولار من الودائع، وهو ما يعادل نصف مبلغ الـ40 مليار دولار التي كانت المصارف قد أقرضتها للقطاع الخاص قبل 17 تشرين 2019، حيث لم يقدم أو يتجرأ أي مسؤول سياسي أو مالي، بخلفيات شعبوية وسياسية ومصلحية، على المطالبة بتعديل بند "السداد بالعملة التي تم الاستلاف بها"، ولو تم ذلك، لأمكن للمصارف أن تُبقي على الحدّ الأدنى من دورها ووظيفتها في خدمة الاقتصاد، إلى حين الفرج المنتظر.


بعض المصارف أعاد تزييت ماكينات التسليف لديه، لكن بتقشف محصور بقلة من العملاء المعروفين منها. ولكن مع عدم وجود قانون يحمي حقوق المصارف، تتم غالبية تلك العمليات من خلال فتح اعتمادات، أو خطوط تسليف وتمويل، عبر فروع المصارف اللبنانية في الدول العربية، أو عبر مصارف شقيقة تعمل في الخارج، ومعظم تلك التسليفات تعود لرجال أعمال ومستوردين محليين وعرب، ودائماً ضمن شروط وضمانات مرهقة، تفوق المعدلات المتعارف عليها عالمياً.


هذا الجدل كان على أشدّه أول من أمس على خلفية ما قاله حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري خلال المنتدى العقاري الثاني بأنه "حان الوقت ليعيد القطاع المصرفي عمليات التسليف"، إذ شهدت منصّات التواصل الاجتماعي تعليقات من أهل القطاع وغيرهم. المصرفي جان الرياشي قال "دون أيّ شك، هناك حاجة ملحّة لإعادة تشغيل التسليف للشركات والأسر، ولكن ثمة عقبات تحول دون تحقيق ذلك. على سبيل المثال، يجب إصدار قانون لمنع سداد الديون بالدولارات المحلية "لولار" أو بالليرة اللبنانية. التحدّي الآخر يتمثل في تحديد من سيتولى مهمة الإقراض. النظام الحالي الذي يعتمد على التمييز بين “الدولارات الطازجة” و”الدولارات القديمة” ليس مستداماً ولا يمكن أن يحل محل إعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي يحتاج إلى إصلاح جذري. حاكم البنك المركزي بالإنابة يدرك أهمية إعادة تشغيل الائتمان ويريد أن يتم ذلك بسرعة دون انتظار الإصلاحات التي طال انتظارها".


أما النائب هاكوب ترزيان فيقول "من الأجدى أولاً إعادة حقوق المودعين الملزمة بالدستور والقانون، قبل التفكير بالتسليف. وعندها، يستعيد الاقتصاد نشاطه. أصحاب الحقوق، أي المودعون، هم أصحاب القرار في أيّ قطاع يريدون توظيف جنى عمرهم، كما يحصل في مصارف دول العالم".

ولكن مصادر مصرف لبنان أكدت لـ"النهار" أن لدى المصارف سيولة، ولكنها في انتظار إصدار القوانين اللازمة في هذا السياق. فغالبية الكتل النيابية أعدّت مشاريع قوانين في الموضوع واشترطت على المستدين إيفاء دينه بنفس هذه الأموال (أي نقدية أو من حسابات جديدة) وبنفس عملة التعاقد حصراً، بما في ذلك عن طريق المقاصّة مع حسابات جديدة فقط. ولكن المشكلة أن لا أحد يتجرأ على أن يصوّت لإقرار هذا القانون. وتؤكد المصادر أنه "عند إعطاء القروض يكبر الاقتصاد، وأي أرباح ناتجة عن الفوائد ستكون ذخيرة للمودعين وليس العكس. القطاع لديه سيولة ولكن بحاجة الى قانون يتيح ردّ القروض بالعملة التي استدان بها".


على المقلب المصرفي، ثمة مصارف تفكر جدياً في التسليف، وأحد المصارف الكبرى بدأ فعلياً بالتسليف بشكل محدود وانتقائي خصوصاً للتجار والصناعيين ذوي السمعة الجيدة والموظفين الذين يوطّنون رواتبهم لديه، وهذه الانتقائية لكون القانون لا يحمي المصارف في هذا الجانب، وتالياً لا يريد أن يتورّط في مشكلات هو في غنى عنها.

وتؤكد مصادر مصرفية أن إيداعات المصارف لدى البنك المركزي تقدر بنحو 82 مليار دولار، أي إن الفجوة هي في البنك المركزي، فيما المشكلة الحقيقية أنه إذا بدأت المصارف بالإقراض قبل وجود أي قانون يفرّق بين اللولار والدولار فستتعرّض لمخاطر عالية، خصوصاً في حال إصرار الزبون مثلاً على رد القرض بشيك مصرفي.

ولكن كيف يمكن للمصرف أن يسلف الناس، ولا يردّ أموال المودعين؟ توضح المصادر أن بعض المصارف لديها فريش دولار وتلتزم بالتعاميم ولديها بعض الفائض من الفريش متأتٍّ عن العمولات وبطاقات الاعتماد، وتالياً يمكن أن تلجأ الى الإقراض لتحصيل الأرباح عبر الفوائد، إذ كلما جنت الأرباح كان في إمكانها ردّ الأموال للمودعين. ولكن حالياً، مخاطر الاقراض مرتفعة، إن لم تعالج الفجوة في مصرف لبنان.


وفي السياق يقول الخبير في الأسواق المالية نديم السبع لـ"النهار"، إنه وفق القانون يجب على المصارف إعطاء المودع وديعته بنفس عملة الإيداع، فحتى لو أعطت اليوم المصارف ودائع الناس بالليرة اللبنانية على سعر صرف 89500، أو بأي عملة أخرى غير عملة إيداعهم، فذلك يُعدّ تخلفاً عن سداد الوديعة.

الإشكالية الأساسية في رأي السبع هي هل يحق للمصارف اللبنانية التسليف من جديد قبل إعادة هيكلتها؟ والأهم أن تترافق إعادة الهيكلة مع ضخ سيولة في المصارف عبر فتح حسابات جديدة. أما إعادة الثقة بالقطاع، فلا يمكن أن تحصل إلا عن طريق سداد الودائع القديمة، وإن لم يحصل كل ذلك فعندها سنفتش حتماً عن بديل لهذه المصارف، خصوصاً أن المودع لديه شعور بعدم الثقة لأن أيّاً من المعنيين أي المصارف أو مصرف لبنان أو القانون لم يتمكّن من حماية وديعته.

ويضع السبع تصريحات المعنيين عن إعادة التسليف وإعادة أموال المودعين في إطار "العناوين البرّاقة"، "إذ من الاستحالة في مكان تطبيقها فيما الأقرب الى المنطق اليوم هو إعادة هيكلة المصارف بدقة لا تصفيتها، لمعرفة ما يملك أصحابها في لبنان وخارجه، وتالياً معرفة من هي المصارف التي تستطيع الاستمرار، إذ إن تصفية المصارف دفعة واحدة تعني تصفية ودائع الناس، والأخطر هو أن يتقدّم من جديد كل المساهمين وأصحاب مصارف سرقت أموال الناس بطلبات لتفتح مصارف جديدة بأسماء وحلة جديدة".

في المحصّلة، لا نموّ في معدلات الاستثمار بدون عودة التسليف، وعودة المصارف إلى إحدى أهم وظائفها، وهي تأمين السيولة من الإيداعات مقابل عائد سنوي، وإعادة تسليفها مقابل عائد مربح ومريح للمقترض والمصرف معاً، ضمن معادلة تراعي التوازن بين الموجودات المودعة، والمطلوبات الاستثمارية.