"والله أبدًا".. عمرو دياب وابن زيدون يصنعان الترند

منذ عمدَ المطربون والموسيقيون المصريون والعرب في العصر الحديث إلى الرهان على الغناء باللغة العربية الفصحى في بعض أعمالهم، وهم يدركون في كل مرة يفعلون فيها فعلتهم أنهم يخوضون مغامرة. هذه المغامرة تتمثل ببساطة في مغازلة الذوق الشعبي أو الجمهور العام العريض بمنتج فني نخبوي إلى حد بعيد، خصوصًا إذا كانت القصيدة المغنّاة لشاعر ينتمي إلى عصر قديم. وحتى إذا كان الشاعر حديثًا أو معاصرًا أو تجريبيًّا طليعيًّا، فإن أبجدية الفصاحة بحد ذاتها ليست لغة العصر الحالي الذي تسوده اللهجات الدارجة القريبة من الأرض، ومن ثم فإن الفصحى تبقى لغة غريبة بالتأكيد عن البيئة المحيطة، وعن المكان والزمان المحليين.

ولأن الطرح الموسيقي الغنائي العربي صناعة تجارية هادفة إلى الربح في طبيعتها في معظم الأحوال، فإن مغامرة ارتداء الأغنية ثوب الفصحى لا تحمل خطورة فنية وحسب، وإنما تحمل بين طياتها أيضًا مجازفة مالية. فالفشل المعنوي، إذا كانت الأغنية دون المستوى أو لم تحقق الغرض منها، تضاف إليه عادة خسارة إنتاجية موجعة.

ومن هنا، يمكن القول إن الالتفات إلى الشعر العربي بالتلحين والغناء هو دائمًا عمل شجاع من حيث الفكرة والمبدأ والرغبة في تمرير قيم فنية جديدة إلى الجمهور التقليدي. وهكذا، في يوم من الأيام، كان أمرًا مفاجئًا ومدهشًا أن تغني أم كلثوم لأبي فراس الحمداني "أراك عصيّ الدمع" بثلاثة ألحان مختلفة، لكل من عبده الحامولي، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي. وأمتع عبد الوهاب جمهوره بالغناء لأحمد شوقي وبشارة الخوري وإيليا أبو ماضي ومحمود حسن إسماعيل وكبار الشعراء، وكذلك فعل فريد الأطرش ومحمد فوزي وفيروز وليلى مراد وغيرهم.

واستمر الموسيقيون والمطربون المجددّون في التعامل مع شعر الفصحى، وإن صارت انتقاءاتهم في مراحل لاحقة تنصبّ على الشعر الحديث من قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، للتعبير عن معاني الحب وهموم الوطن وقضايا الحياة اليومية الراهنة المتنوعة. واستوعبت الأغنية العربية دفقات شعرية منعشة في شرايينها، نجمت عنها الروائع الملحّنة والمغنّاة لنزار قباني ومحمود درويش وآخرين، بأصوات عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وماجدة الرومي وكاظم الساهر وغيرهم، وبموسيقى ثرية النغمات والإيقاعات والتوزيعات لعبد الوهاب ومحمد الموجي وبليغ حمدي ومارسيل خليفة وآخرين.

وتعدّ كل تجربة من هذه التجارب عملًا استثنائيًّا، يدفع الأغنية العربية إلى مدارات تجديدية راقية، كما هو الحال في "قارئة الفنجان" و"رسالة من تحت الماء" مثلًا للثالوث "نزار، الموجي، حليم"، وفي سلسلة أعمال "درويش، مارسيل خليفة" من قبيل "أحن إلى خبز أمي" و"ريتا"، وسلسلة أغنيات "نزار، كاظم الساهر" مثل "زيديني عشقًا" و"أشهد أن لا امرأة" و"مدرسة الحب" و"إني خيرتك فاختاري" و"قولي أحبك" و"كل عام وأنتِ حبيبتي"، إلى آخر هذه النتاجات الفنية الفريدة الثقيلة، التي فرضت حضورها على الوجدان الشعبي والضمير الجمعي العربي، من المحيط إلى الخليج، ولم يستشعر أحد فيها غرابة ولا إقحامًا.

وفي المقابل، فإن هناك من المطربين والموسيقيين الجدد من خاضوا مغامرة الغناء بالفصحى، ربما على سبيل التجربة أو الاستعراض، ولم يوغلوا في الممارسة أو يتركوا أثرًا يُذكر، من أمثال علي الحجار ومحمد الحلو ووليد توفيق وأصالة ولطيفة وسمية القيصر وآمال ماهر ولطفي بوشناق وكارول سماحة ونانسي عجرم وغيرهم. ولعل وجود بعض الكرنفالات والمهرجانات الدورية المتخصصة، على غرار "مهرجان الغناء بالفصحى" الذي تنظمه وزارة الثقافة السعودية بدعم من برنامج جودة الحياة، و"مهرجان الموسيقى العربية" في دار الأوبرا المصرية بالقاهرة، هو ما يشجّع البعض على تقديم أغنيات متسرعة بالفصحى لمواكبة الحدث، وليس عن رغبة حقيقية جادة في إحداث تطوير للأغنية العربية وإثراء حواسّ المتلقي.

ومنذ أيام قليلة، صدرتْ عبر تطبيق "أنغامي" للموسيقى أغنية جديدة مركّبة بعنوان "والله أبدًا"، يغنّيها عمرو دياب، من ألحان عزيز الشافعي، وتوزيع عادل حقي ومكساج (دمج صوتي) وديجيتال ماستر أمير محروس. أما كلماتها، فهي مزيج من العربية الفصحى والعامية المصرية معًا. تبدأ الأغنية بالفصحى، وتنتهي بها، من خلال بيتين شهيرين من نونية الشاعر الأندلسي ابن زيدون (1003م-1071م) في عشق ولادة بنت المستكفي "والله ما طلبتْ أهواؤنا بدلًا منكم، ولا انصرفت عنكم أمانينا/ أَضحى التنائي بديلًا من تدانينا.. وناب عن طيب لقيانا تجافينا". أما الكلمات العامية القليلة في الأغنية، فقد كتبها عزيز الشافعي أيضًا "نسينا المُر ما نسيناش الحلو منكم.. مين أحلى منكم. وبيسألونا لما يسألونا عنكم. بيقول حبايبنا.. ومهما يحصل منا، ولا نستغنى عنهم. والله أبدًا.. لا لا.. والله أبدًا. وعلى أمل لقانا.. صبحنا ومسانا.. عايشين معانا. بيستغربونا إزاي البعد ما قسّانا. بيقول حبايبنا.. بتوع زمان، ولا يفرق معانا. والله أبدًا.. لا لا.. والله أبدًا".

وتستحق أغنية "والله أبدًا" (7 دقائق و11 ثانية) أن توصف بأنها تجربة موسيقية غنائية فعلًا، بمقاييس اللحظة الحالية، ومعايير المزاج السائد. وقد حققت ذيوعًا هائلًا وحظيت بمئات الآلاف من المتابعات في ساعات قليلة، وتصدر عمرو دياب وابن زيدون الترند في تويتر، الأمر الذي دفع عزيز الشافعي إلى القول إن الأغنية قد أحيت ابن زيدون بعد ألف سنة من رحيله وجعلته في مقدمة الترند عام 2023، من خلال بيتين اثنين فقط!

وبعيدًا عن مبالغات عزيز الشافعي والمتحمسين للأغنية باعتبارها تجريبًا خالصًا وإضافة إلى الأذن العربية على مستوى الموسيقى والتوزيع والأداء، وحجرًا تم إلقاؤه في مياه الأغنية المصرية والعربية الراكدة. وبعيدًا أيضًا عن مبالغات المنتقدين الذين يتحدثون عن التناول الاستهلاكي لعيون الشعر العربي وامتهانه تجاريًّا في صيغ خفيفة مسطحة ودمجه بكلمات أخرى فجة وأجواء غير منسجمة..، فإنه من الإنصاف التعاطي مع الأغنية الوليدة بقدر أكبر من الموضوعية.

إن صُنّاع الأغنية المصرية في هذا التوقيت لا يعملون في فراغ، ولا يخاطبون أنفسهم، وإنما هم على دراية كاملة بطبيعة المشهد القائم، بكل ما فيه من سوقية وتراجع وابتذال، وانتحال وتقليد وتكرار إلى درجة التنميط. وبالتالي، فإن الإقدام على مغامرة تلحين أبيات ابن زيدون وغنائها، وانتظار النجاح الفني والكسب المادي من ورائها، هو بمثابة دخول حقل ألغام، حيث تتطلب كل خطوة حسابات ومعادلات دقيقة، حتى تخرج الخلطة شهية، ومستوفية لعناصر تكوينها.

من الصعب غناء قصيدة مطولة، وبالتالي جاء الاختيار ذكيًّا بالاكتفاء ببيتين لابن زيدون، من الشعر العاطفي الوجداني السهل، الذي يكاد يشرح ذاته بذاته. ومع ذلك، أضيفت الكلمات العامية، لتقريب ما هو قريب أصلًا، ولإعطاء رسالة إلى المتلقي بأن الفصحى والعامية قد تكونان ببساطة وسهولة وجهين لعملة واحدة، هي عملة العشق، والوفاء للمحبوب بعد غيابه، والبقاء على العهد أبد الدهر.

وهذا التوجس من الفصحى، الذي عولج بهذه الطريقة الذكية، تمت إزالته أيضًا بأساليب أخرى تخص الأداء، الذي جاء إنشاديًّا أكثر منه غنائيًّا، على نحو وثيق الصلة بالموروث الصوفي وحلقات الذكر، وهي ثيمات مألوفة ومستساغة ومحببة إلى النفس، أكسبها صوت عمرو دياب بريقًا ووضاءة وإبحارًا في العمق الإنساني والنضج الروحي في رسم حالة الاشتياق بمصداقية.  

والحصة الموسيقية كذلك هي الغالبة على دقائق الأغنية القصيرة، فمساحتها وافية، كي لا تكون هناك فرصة للتوقف أكثر من اللازم عند أية مفردة لغوية قد تكون ثقيلة أو مستغلقة. وهناك بالفعل جرأة في استخدام عبارات وتنويعات موسيقية وافدة وجديدة على الأذن، بتوزيعات مبتكرة، وإيقاعات طاغية، ومنظومة من الآلات الكثيرة المعبّرة والمؤثرة، خصوصًا الوتريات المشحونة بالشجن والذكرى والوحدة والنوستالجيا، والتي تسرد حكائيًّا بشكل منفرد لواعج العشق والفراق، وتستعيد أنغامها طقوس قصة ابن زيدون وولادة بنت المستكفي، وقصة كل عاشق نأى عن حبيبته أو نأت عنه، وأبدًا يظل لا ينساها "والله أبدًا".

وباختصار أكثر، فإنه لا يمكن "في المطلق" قياس القيمة المجردة لأغنية "والله أبدًا" مقارنة بمثيلاتها التي غنّاها عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وكاظم الساهر مثلًا من الشعر العربي الفصيح في عهود سابقة. ولكن من الممكن الحديث والنقاش عن "النجاح النسبي" الذي أحدثته أغنية عمرو دياب في تمرير الأبيات الشعرية العربية إلى قطاع عريض من الجمهور المصري والعربي غير النخبوي. وهو أمر ليس ببعيد كثيرًا عن نجاحات السابقين في هذا المضمار الصعب، مع الأخذ في الاعتبار التراجع الفادح في المشهد الفني المصري الحالي، إنتاجًا وتلقّيًا ومناخًا وذائقة، وهو ما يمنح أغنية "والله أبدًا" علامات شجاعة وإجادة إضافية، حتى وإن اشتغلت الأغنية على النزر اليسير من كنوز الشعر، واكتفت بالقطرات القليلة الهشة من معاني العشق ودرجاته وطبقاته.