تعرّضت لمحاكمة في بيروت بسبب قصة...رحيل ليلى بعلبكي

توفيت في لندن، الروائية ليلى بعلبكي، احدى أشهر الكاتبات العربيات، اللواتي تعرضن لمحاكمة في بيروت بسبب قصة، وهي بعد زواجها في منتصف الستينيات، اختارت الانفكاء والعيش بمنأى عن الأدب وهواجسه وتفكراته، وقلما ظهرت في وسائل الاعلام، كأنها ضجرت سريعاً، ولم تنشر سوى مقالات قليلة تتعليق بقضايا متفرقة...

ولدت ليلى بعلبكي في بيروت العام 1934، وتعود جذور عائلتها إلى قرية حومين التحتا في منطقة النبطية الجنوبية. والدها هو الشاعر الزجلي، علي الحاج البعلبكي. درست ليلى في المدرسة الرسمية في عين المريسة (بيروت)، ثم انتقلت إلى كلية المقاصد الاسلامية، فأنهت فيها المرحلتين المتوسطة والثانوية. ثم تابعت دراستها في معهد الآداب الشرقية التابع لجامعة القديس يوسف في بيروت. بدأت الكتابة في الرابعة عشرة، ثم عملت موظفة في مجلس النواب اللبناني بين 1957 و1959. وفي شتاء 1958، أعلنت مجلة "شعر" صدور روايتها "أنا أحيا"، وورد في الإعلان أن هذه الرواية "سيكون لها أثر بعيد في مستقبل الرواية العربية"، وهي رواية وجودية المضمون تصور اغتراب الانسان عن ذاته، وتمرد المرأة على الرجل. فبطلة بعلبكي تعتقد أنّ بإمكانها "تحرير جسدها بالمتعة وألاعيب العشق وبذل الجسد"، في حين أنّ البطل، بهاء، يبدي، رغم كونه شيوعياً، أفكاراً بالية عن المرأة، وتنتهي الرواية بفشلهما معاً. بطلة متناقضة، تعاني الوحدة والقمع العائلي، تكره والدها وتسخر منه، رجلاً ذكورياً وزوجاً وتاجراً ينتمي الى طبقة الأثرياء الجدد. وتبلغ بها الكراهية حتى لتصفه بـ"الأحمق" وتحتقره. أما الأم فلم توفرها بدورها من بغضائها. إنها في نظرها أنموذج عن المرأة التقليدية التي لا تعرف من الحياة إلا طهو الطعام وتربية الأبناء ومشاركة الزوج فراشه عندما يريد هو. امرأة خاضعة لسلطة "الذكر" تشفق عليها وتشمئز منها وتعاندها: "منظر لحم والدتي يثير قرفي منها".

وقد لقيت هذه الرواية صدى إيجابيًا لدى النقاد، في موسوعة "الكاتبة العربية" (المجلس الأعلى للثقافة في مصر). في تناولها الرواية النسائية اللبنانية، اختارت الناقدة يمنى العيد "أنا أحيا"، كأولى الروايات النسائية الحديثة واصفة إياها بأنها "شكّلت علامة بارزة على تطور الكتابة الروائية العربية في لبنان". وقال الراحل أنيس منصور عن الرواية: "عندما قرأت رواية أنا أحيا لليلى بعلبكي، تمنيت أن تكون أقصر، أما الذي هزني وأدهشني وأزعجني فهذه العبارات النابية والكلمات البذيئة على لسان البطلة، وهي تشتم أباها وأمها، ورأينا في ذلك الوقت أن هذا خروج وأن الخروج هو بداية الحرية، وأن الحرية لها أنياب وأظافر، وأن فلسفة المرأة الجديدة هي المخالب والأنياب تمزق بها ملابس الرجل وظلمه وخداعه، وهذا هو الجديد". أما الناقد والروائي الفلسطيني، جبرا إبراهيم جبرا، فاعتبر أن رواية ليلى بعلبكي تتضمن غنائية لفظية مميزة تقربها من الشعر. بينما رأى الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة، أنها كتابة روائية متجددة. وكتبت فاطمة المحسن أن الرواية "التي كُتب عنها الكثير، تلخص خطاب الحداثة اللبنانية في الستينات، فهي على كونها رواية تقترب من أدب فرانسوا ساغان الذي شاع في العالم وقتذاك، كانت أصيلة في مضمونها التثاقفي، فلم تكن مجرد تقليد لأساليب الكتابة الفرنسية، وأفكار الكاتبات النسويات، بل كانت تتلامس مع فكرة الإحلال والإبدال بين الثورة والتقليد، وقلة من الروايات في زمنها ترقى إلى مستواها في التلازم العضوي بين الشكل والمضمون. أعادت هذه الرواية تصنيف النص النسوي، باعتباره تلخيصاً لأنا الكاتبة، لا الأنا الاجتماعية وحدها، فليس المهم أن يكتب الكاتب أدباً يتجاوز المتعارفات ويتحدى القوانين والمحرمات، بل كيف يقول أناه الإبداعية على نحو مختلف".

اختتمت بعلبكي مسارها الروائي العام 1960 عندما أصدرت روايتها الثانية "الإلهة الممسوخة"، ولم تحظ بما حظيت به "أنا أحيا". لكنها، هي التي لم تتوار لحظة عن المعترك الروائي، ما لبثت أنْ اختطفت الأضواء في العام 1964 عندما منعت وزارة الإعلام مجموعتها القصصية "سفينة حنان إلى القمر"، وكانتْ القصة التي تحمل المجموعة عنوانها، هي الحافز، نظراً إلى احتوائها مقطعاً أو جملة وصفت بـ"الإباحية".

وحوكمت ليلى بعلبكي وأوقفت ثمّ تراجعت المحكمة عن قرار المنع مبرّئة الكاتبة والقصّة على مضض. "إن محاكمة ليلى بعلبكي هي الأولى من نوعها في تاريخ القضاء اللبناني، وهذه هي المرة الأولى التي يُحاكم كاتب عن كتاب ألّفه"، هذا ما قاله النائب محسن سليم، محامي بعلبكي في قضية كتابها. وكان السبب المباشر لاندفاع المحكمة، تعليقاً ورد في مجلة "صباح الخير" القاهرية بإمضاء معلقة اسمها "نادية". فاقتبست في تعليقها مقطعاً من أربعة اسطر ورد في الكتاب "وجاءت فيه كلمة (لحوس) التي لعبت في ما بعد دوراً رئيسياً في القضية"، واختتمت كلمتها القصيرة بقولها: "شعرت بقشعريرة وبتقزز، وقلت لنفسي بضيق: يا ست ليلى بعلبكي، لحوس إيه، وحام إيه، وطرية وناعمة إيه، وأدب إيه؟ ملعون هذا الأدب يا شيخة!".

ونشرت مجلة "حوار"، التي كان يرأس تحريرها الشاعر الراحل توفيق صايغ، تفاصيل عن المحاكمة جاء فيها: نقمت بعض الصحف في بيروت على اهتمام السلطات (اللبنانية) بملاحقة الكتاب لمجرد نشر نقد في مجلة "صباح الخير" بالذات. ووجدت نوعاً من "العدالة" في أن إحسان عبد القدوس نفسه، صاحب هذه المجلة، تعرض في ما بعد لمشاكل مماثلة في القاهرة لروايته الجديدة "أنف وثلاث عيون"، التي قال المستشار في إدارة قضايا الحكومة في القاهرة في عريضة الدعوى أنها "تتضمن انحلالاً وتحطيماً لكل القيم الإنسانية والروحية والخلقية والدينية، فضلاً عن منافاتها لأبسط قواعد الآداب العامة". وربما كانت مثل هذه الملاحقات في بال الأستاذ عبد القدوس، عندما كتب في زاوية له في "روز اليوسف": "كارثة على الأدب العربي على وشك أن تهب. وعندما تمتد يد غير المختصين وغير الفاهمين لتحاول أن تخنق إنتاجاً أدبياً، فهي كارثة. ليست كارثة على واحد من الأدباء، ولكنها كارثة على كل الأدباء، وعلى الأدب". وشبهت الصحف قضية ليلى بعلبكي بقضية "مدام بوفاري" و"أزاهير الشر" و"عشيق ليدي تشاترلي" و"لوليتا".

"... وبالرغم من تبرئة بعلبكي، إلا أن التجربة كانت مروعة. واتفق النقاد بالإجماع على أن المحاكمة أنهت المرحلة الأهم في مسار بعلبكي الأدبي. فقال أنسي الحاج في "ملحق النهار": "مسألة ليلى بعلبكي حدثت وستحدث ما دام في العالم دول. أنها ذهبت ضحية لأنها امرأة ولأنها معروفة ولأن رأيها صريح في النظام البوليسي. الصراع بين الأدب والنظام ظاهرة روتينية لا جديد فيها. وأكاد أقول يجب أن يكافح النظام الأدباء، ففي وجود كل من الاثنين نفي الآخر".

وتساءل سعيد فريحة في "الصياد"، كيف يمكن لليلى بعلبكي أن تكتب أدب جنس ما دام أدب الجنس هو أدب التجارب (وليلى فتاة شرقية ما تزال في عمر الورود)؟ (تبلغ الآنسة بعلبكي الثامنة والعشرين من العمر)". وأردف: "هل يعقل أن تعيش فتاة في مثل وضعها وسنها أدب الجنس كما عاشه إحسان عبد القدوس وعشته أنا مثلاً؟"

لكن أحداً لم يبلُغ في هجومه الدرك الذي وصله تعليق غير مُوقَّع في "الشعب": "إن كانت ليلى بعلبكي تريد أن تحيا، فلتحيا وحدها مع القذارات والكلاب. لكن لتدع الناس وشأنهم، ليست نقمة على نزعة واقعية نقمتنا على ليلى بعلبكي، فليلى ليست واقعية أولاً وهي ليست في كتاباتها فنانة ثانياً. فالإنسان لا يعيش مع رعشات الكلاب والفن لا ينمو حول القذارات".

وأزف موعد المحاكمة. 
وصرّحت ليلى بعلبكي قبيل المحاكمة: "لن أعتذر في غرفة المحاكمة، أمام هيئة المحكمة، عن الأشياء التي كتبتها والتي أحاكم من أجلها. إني جد فخورة بما كتبت". وتابعت: "إني أسأل: هل العطاء هو جريمة؟ ذنب؟ خجل؟ أني أؤكد وأشعر أن هذه القضية تطاول جميع الأدباء والفنانين وهي تحد من الخلق والفن. إن هذا الشيء معيب بأن اقف أمام المحكمة واشرح لماذا كتبت. أنا أكتب بحرية. أكتب للنخبة، المثقفين، الأنباء ذوي الأفكار السامية، الأنباء الناس الناضجين. أنا ارفض أن أكتب لمرضى الأخلاق وللمقعدين وللمتأخرين عقلياً".

وبالتزامن مع نجومية الرواية، نشطت بعلبكي في ميدان الكتابة وفي إلقاء المحاضرات مثل محاضرتها في "الندوة اللبنانية" (11/5/1959) التي اختارت لها عنوان "نحن بلا أقنعة"، والتي صبّت فيها نقدها على المجتمع اللبناني والمجتمعات العربية، وعلى العائلة والقيم السائدة.

وفي تلك الأجواء، تزوجت أنطون وديع تقلا (توفي في 1/8/1993)، وأنجبت ابنتين وابنًا. عندما اندلعت الحرب اللبنانية في العام 1975، هاجرت ليلى بعلبكي إلى لندن وانقطعت عن الكتابة. وفي العام 1979 عادت إلى لبنان بعدما قرّ قرارها على اعتزال الكتابة والصحافة والناس إلا القليل من أصدقائها، وعاشت منذ ذلك الزمان بين إنكلترا ومسقط رأسها. في العام 2009، أي بعد أكثر من أربعين عاماً على ابتعادها عن الأضواء، أطلّت بعلبكي، تلك الإطلالة اليتيمة في معرض الكتاب العربي، في بيروت، لتوقع كتبها التي أعاد دار الآداب طباعتها، لتظهر بشكل مختلف، بطبيعة مرور الزمن، ثم تعود إلى عالمها.
 
يقول الصحافي محمد علي فرحات: "ربما شكّل تنوّع سكان شارع رستم باشا - عين المريسة – بيروت وثقافاتهم حافزاً للفتاة المثقفة الجريئة لتكتب بحيوية وحرية، مبرزة مشاعر الفرد بلا حدود. ولم يكن منطلق ليلى بعلبكي الروائي محسوباً على ايديولوجيا حداثية محددة، فهي، بثقافتها وجرأتها وموهبتها وذكائها، حديثة بالمطلق، كأنها ترى بوابة الحداثة في تعيين الفرد وتمييزه عن شمولية الجماعات، حتى جماعته الصغيرة – الأهل".
 
يضيف فرحات: "وينتهي شارع رستم باشا بشارع فينيقيا حيث أسس آل البحيري دار ومطبعة الأحد، ومن بعدهم يوسف الخال مجلة "شعر" مع أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا، ودار نشر باسم المجلة، ومطبعة باسم آل الخال، وفي المبنى يسكن الطبيب ايلي حلاق، صهر المخرجة السينمائية اليسارية هيني سرور، الذي ما لبث أن خُطف لاحقاً وربما قتل مع يهود لبنانيين آخرين في ليلة واحدة خلال حرب لبنان الدموية(...). وأثناء نشأة ليلى بعلبكي في خمسينات القرن الماضي كان سكان شارع رستم باشا: أم حمدي الحبوشي تزرع الزهور ويتزود منها غبريال طراد وصائب سلام وهنري فرعون بالقرنفل لتزيين عروة السترة، وتفتخر بشجرة المانيوليا العالية في حديقتها تعطي زهرها النادر. ومن بعد، دكان اللبان الذي كان يوزع الحليب طارقاً البيوت كل صباح، ثم العجوز حنوف تبصّر للنساء، ومن بعدها عائلة يهودية تمتهن الخياطة، وبيت الشاعر علي الحاج بعلبكي والد ليلى بعلبكي الذي كان يعمل في المفوضية السامية الفرنسية، ثم انتقل الى العمل مع اميل البستاني صاحب شركة كات الشهيرة، والى جانب عمله كان بعلبكي ينظم الشعر العامي ويعقد صداقات مع مثقفين وزعماء ووجهاء، يلي ذلك بيت آل الجشّي ثم آل فاخوري فآل شاكر وآل فرشوخ، وفي مفترق صغير بيت القس عبدالله الصايغ وأبنائه: الراحلان فايز الصايغ وتوفيق الصايغ الشاعر ومنشئ مجلة "حوار" بدعم المنظمة العالمية لحرية الثقافة، فاختار مكاتب"حوار" أوائل الستينات في الشارع نفسه، وأنيس الصايغ منشئ مركز الأبحاث الفلسطيني، وتجاور بيت الصايغ عائلة يهودية تعمل في الصيرفة(...).
 
وفي الجهة الثانية من شارع رستم باشا، بيت فانوس حيث يسكن أرمن ويهود، وعند بابهم العجوز عطارد تبيع الحمص الأخضر والفريكة، ويجاور البيت حديقة وبيت صغير لآل الريشاني حيث يسكن سوريون من آل البيطار، وتعلو في الحديقة نخلة وحيدة وقربها كوخ للحصان الذي يجر خزاناً لبيع الكاز، ونصل الى بيت المختار عبدالكريم شقير ثم بيت آل الخانجي تجار الأقمشة، فبيت الصحافي ناصيف مجدلاني الذي أصدر "الحياة الرياضية" وزامل كامل مروة في إصدار جريدة "الحياة" العام 1946، ونكمل الى بيت سعد الذين يصنعون الشوكولا الفاخرة ويبيعونها في محلهم في شارع فوش. وفي شارع فرعي كان يسكن لفترة الشاعر محمد سليمان الأحمد بدوي الجبل، والسياسي السوري غسان جديد الذي اغتالته لاحقاً الاستخبارات السورية في شارع بلس"....
 
صورة الشارع كما يرسمها فرحات، صورة من زمن غابر، زمن ما قبل تتحلّل بيروت وقبل أن تصيب تعدديتها لعنة الزوال والأفول، لمصلحة البيارق والأراكيل.