4 آب... صحافيون ناجون من الموت: كُتِبَ لنا عمر جديد

تاريخ استثنائي يذكرنا بأفظع جريمة بحق البشرية، لعنة خلدت في ضمير كل لبناني حتى يومه الأخير، ونعمة لمن كتب له عمر جديد بعده وان كان مقترنا بحرقة على وطن دمرت احلام أبنائه وتاريخ عاصمتهم ...

كيف لنا الا نبكي، الا نصرخ، الا نترحم على كل ضحية انتقلت الى دنيا الخلود بسبب استهتار وجشع وفساد حكام "غير حكماء" أدخلوا مواد متفجرة الى مرفأ العاصمة وهم على معرفة بخطورتها ونتائج انفجارها.

مرّ على هذه الجريمة ٣ سنوات، وكأنه اليوم. في كل صورة او مشهد نتذكرها، في صرخة أهالي الضحايا الأبطال المناضلين رغم كسرة قلوبهم والصامدين بوجه منظومة فاسدة نسترجع صخبها...

شهداء وضحايا بالمئات، مصابون بالآلاف، دمار لا يحصى ولا يعد، وشهداء أحياء عانوا كثيراً من تداعيات هذا الانفجار.

فكيف إذا كان هؤلاء الناجون صحافيين يؤدون عملهم الصحافي؟ وإذ بلمح البصر يدخل الخطر الى داخل جدران مكاتبهم، ويتوّقف الزمن عندهم في تمام الساعة 6:07.

 

الزميل الاعلامي في محطة الـMTV  موريس متّى، الذي كان متواجداً أمام مبنى "جريدة النهار" ليؤدي عمله اليومي، لم يكن على دراية ان يومه هذا سيخلّد في ذاكرته الى الأبد، اليوم الذي نجا فيه من ثالث أكبر انفجار في العالم، وهو الذي كان على بعد أمتار من مرفأ بيروت، واقفاً امام مبنى جريدة "النهار" بطريقه الى مكتبه، قبل أن يرميه عصف الانفجار من مكان الى آخر.

"دفعنا فاتورة لا ذنب لنا بها"، هكذا اختصر كلامه عندما استذكر هذا اليوم المشؤوم، وفي حديث خاص لموقعنا، قال متّى: "نعيش في بلد تغيب عنه العدالة، نحن شعب رخيص بنظر المسؤولين الذين دمّرونا ودمّروا عاصمتنا وعملنا".

مشاعر ممزوجة بالغضب والألم وحالة من النكران يعيشها موريس، هو الذي نجا جسدياً بأعجوبة، مؤكداً أنه لا يمكن وصف ما عاشه آنذاك، ومكتفياً بالقول: "هيدا النهار صار نقلة بحياتي وأتذكره برائحة الدماء وأصوات الناس".

وشددّ متى على ضرورة الاستمرار بالمطالبة بالعدالة لأنها حقّ للجميع، فكل لبناني تأذّى ان كان جسدياً أو معنوياً أو حتى مادياً، ولكنه بالمقابل أكّد عدم ثقته بالوصول الى العدالة قريباً كونها لا تطبّق في لبنان، معتبراً أن رهان المنظومة اليوم هو على عامل الوقت لحرف الأنظار وعرقلة التحقيقات للتهرّب من المحاسبة.

الله بيحبني زمطتت عَ شعرة

الزميلة الصحافية في "الشرق الأوسط" فاطمة عبدالله، روت لنا التجربة المريرة: "يومها كنت لا أزال أعمل مسؤولة فترة في الموقع الالكتروني لجريدة "النهار"، واتصل بي زميل ليخبرني أنّ حريقاً يندلع في المرفأ. تابعت عملي التحريري، ولم أتخيّل أنّ انفجاراً سيقع بعد دقائق وهذا الحريق الهائل سيلتهم روح المدينة. انفجرت العاصمة ولم استوعب ما حصل. زجاج ودمار رهيب ومجهول. كان السؤال ماذا جرى؟ ضياعٌ وإحساس بالموت. تخيفني استعادة ما جرى.  تلك اللحظة المرعبة لا تزال تسكنني".

أضافت: "يخجلني الحديث عن إصابات جسدية طفيفة ألمّت بي وتركت ندوباً عليَّ، أمام الجرح البيروتي الكبير وخسائر الآخرين أحباءهم. لا يهمّ الأثر الجسدي الطفيف أمام الأثر النفسي العميق. حالتي لا تستحق التوقف عندها، أمام من فقدوا أعزّ الناس، وأصيبوا بجروح بليغة، ومن دمرت منازلهم بالكامل".

وتابعت عبدالله بتأثر: "جرح اللبنانيين كبير جداً، لا يُختم الا بعد كشف الحقيقة الكاملة ومحاسبة القتلة. أعجز عن استيعاب أنّ ثلاث سنوات مرّت ولم يُحاسب أحد ولم يُزجّ متورّط في السجن"، معبّرة عن حزنها وأسفها على من غادروا إلى العالم الآخر، وقتلوا بثوانٍ من دون أن نشهد على تحقُّق العدالة.

وعن الحالة النفسية التي مرّت بها بعد الانفجار، لفتت الى أنها لا تزال مشاعر الخوف تسكنها، فالتروما تستفيق أمام أول صوت عالٍ، كصوت الرعد أو ارتداد الباب. وتضيف أنّ وقتاً مرَّ قبل تمكنها من استعمال المصاعد مجدداً، بعد كوابيس طاردتها لمدة طويلة عن انفجار المصعد وهي في داخله. وأكدت أنّ ما عاشته صعب جداً، لا يُنسى، فكل تفاصيل ذاك اليوم تمرّ في خيالها، من تكسير الزجاج، الى أصوات الصراخ، إلى البكاء، الى الدماء التي رأتها.

وختمت: "الله بيحبني زمطتت عَ شعرة.. والا لكانت المكتبة المتكئة على جدار لصيق بمكتبي سقطت فوق رأسي. وهبنا الله حياة جديدة، ولكن كيف تستمر؟ كيف لا نزال أحياء رغم كل ما جرى؟ رغم الموت والتروما ومقتل العدالة؟ إننا معذبون بنزيفنا الداخلي والموت الكبير الذي ألمَّ بالناس والمدينة".

"ناطرة الموت ليوصل"

الزميلة الصحافية في جريدة "النهار" سلوى بعلبكي، روت لموقعنا بغصّة وتأثر شديد ما حصل معها يوم الرابع من آب.

وقالت: "كنا في زمن كورونا، ما استوجب علينا العمل من المنزل في الكثير من الأحيان، وكون 4 آب كان يوم اطلاق "النهار العربي" اضطررت للنزول من منزلي في الجنوب الى مبنى جريدة "النهار" في بيروت".

أضافت: "اتذكّر يومها جيداً انني كنت منهمكة بالعمل وبموضوع كنت أحاول انهاءه بأسرع وقت ممكن للعودة الى الجنوب، وفي المقابل كان ينتابني شعور غريب بأن نهاري لن يمرّ من دون دخولي الى المستشفى ولا أدري لماذا".

وتابعت بعلبكي: "صدمنا بالانفجار الأول الذي سُمع قبل ثوانٍ من الكارثة، وعلى الرغم من ذلك لم أكترث وتابعت عملي، حتى أتت الصاعقة وانفجرت العاصمة وتوقّف كل شيء... "طيران اسرائيلي عالأكيد"، هكذا جزمت في بداية الأمر، ووقفت منتظرة الغارة الثانية المدمّرة والقاضية بدورها على ما تبقى من حجر وبشر... و"ناطرة الموت ليوصل".

"سلوى عم بيصفّي دمّك"، هذه العبارة كانت كفيلة لتستعيد بعلبكي وعيها، وتستوعب أن انفجاراً قد هزّ بيروت ونفوسنا في آنٍ معاً.

وقالت: "خرجنا بسرعة، ولم أكن ادري ما سبب النزيف وما هو جرحي، واذ بي الاحظ أن يدي مضرّجة بالدماء، وعلى الرغم من ذلك تابعت طريقي للخروج من المبنى والتوجّه الى أقرب مستشفى للحدّ من النزيف الذي يعتريني، لأتفاجأ برؤية زميل شاب مرميًا على الأرض، وهو يصرخ: يا الله! فهذا المنظر كان كافياً لإسترجاع وبلحظة واحدة ذكريات الحرب كافة".

وتابعت متأثرة: "أنا ابنة الجنوب، ومرّت علي حروب وغارات كثيرة، ولكن ما حصل يومها أفظع بكثير... خرجت من المبنى ويدي مجروحة والدماء تسيل منها، ووصلت مستعينة بأحد سائقي الدراجات النارية الى المستشفى " الأشبه بالمسلخ"، وبدأ المسعفون بمعالجتي، وخضعت بعدها لعمليات جراحية وما زلت حتى اليوم أعاني من أوجاع كثيرة.

وختمت بعلبكي بالقول: "ليتنا لم نعش هذه اللحظات، ليت بيروت لم تدمّر... نعيش في وطن الموت فيه رخيص وللأسف، وحكامه فاسدون ومجرمون".

 

اليوم، تطفىء جريمة تفجير المرفأ شمعتها الثالثة، اليوم نستعيد كلنا مشاعر أليمة نحاول في أيامنا العادية نسيانها.

دولة غائبة، منظومة فاسدة ترقص على دماء شهدائها، تعرقل من جُبنها مسار التحقيقات والعدالة، وتراهن على عاملي الوقت والنسيان... ولكن اعلموا جيّداً انه ان لم تتحقق العدالة على الأرض، فالعدالة السماوية بانتظاركم وما من أحد "فوق راسو خيمة"!